التحليلات

إحاطة غوتيريش وإعادة طرح قضية الجنوب كمدخل للحل السياسي

شيخ جنوبي مشارك في الاعتصام المفتوح بساحة العروض في عدن للمطالبة بإعلان استقلال واستعادة دولة الجنوب، 27 ديسمبر 2025 (مركز سوث24)

27-12-2025 الساعة 9 مساءً بتوقيت عدن

"إدراج قضية الجنوب ضمن مسار تفاوضي يضمن حق تقرير المصير لن يشكل تهديداً للأمن الإقليمي، بل سيكون الضمانة القانونية والسياسية الأساسية لتجفيف مصادر الصراع.."

مركز سوث24 | زينة الغلابي


جاءت إحاطة الأمين العام للأمم المتحدة الأخيرة إلى مجلس الأمن في لحظة سياسية وأمنية حساسة، سبقتها تطورات ميدانية متسارعة أعادت ملف اليمن إلى واجهة القلق الدولي [1]. فقد شهد جنوب اليمن خلال الأسابيع التي سبقت الإحاطة تصاعداً في التوترات العسكرية والسياسية، وتنامياً لمخاطر الانزلاق نحو جولة صراع أوسع، في ظل تعثر مسار الحل السياسي الشامل.


قاد المجلس الانتقالي الجنوبي تحركات ميدانية غيرت موازين السيطرة على الأرض، وأحدثت تحوّل نوعي في خريطة الفاعلين العسكريين على الجغرافية الجنوبية، كانت أبرز نتائجها انحسار دور حزب الإصلاح عسكرياً "الإخوان المسلمين"، بعد سنوات من حضوره غير المباشر عبر تشكيلات وقوى محلية متحالفة معه أو محسوبة على نفوذه في بعض محافظات شرق جنوب اليمن، وتحديدًا المنطقة العسكرية الأولى [2].


وعلى الرغم من مخاوف الأمين العام للأمم المتحدة من اتساع رقعة الصراع وتداعياته على السلم والأمن الإقليميين، بما في ذلك الممرات البحرية الحيوية في البحر الأحمر وخليج عدن، والقرن الإفريقي إلا أنّ الإحاطة الأممية أعادت تعريف المشكلة بوصفها قضية سياسية تتطلب معالجة تفاوضية، لا ساحة لتصفية حسابات حزبية أو أيديولوجية. وهذا ما يعكس فهمًا دوليًا معمقًا لطبيعة القضايا اليمنية غير المعالجة، وهو ما يتقاطع في ذات الوقت مع وجهة النظر السياسية التي يعبر عنها المجلس الانتقالي الجنوبي الذي ينطلق في مشروعه السياسي مرتكزًا على قضية الجنوب كقضية سياسية جوهرية جرى تأجيلها أو الالتفاف عليها ضمن مسارات تسوية جزئية، ومؤقتة [3].


قضية الجنوب جزء من الحل لا سبب للتصعيد


تعتبر قضية الجنوب أكثر القضايا تعقيدًا واستمرارية في السياق اليمني المعاصر، وظروف نشأتها لم تكن انعكاسا مباشرًا للحرب الراهنة، بل جاءت كنتاج تراكمي لاختلال بنيوي قديم رافق مشروع الوحدة اليمنية منذ لحظته التأسيسية [4]. وعلى الرغم من التحولات الجذرية التي شهدها اليمن منذ قرابة أربعة عشر عامًا، فإن جوهر قضية الجنوب ظل حاضرًا بصيغ متجددة، إلى أن بلغ مرحلة غير مسبوقة تمثلت في بروز الجنوب -عقب خروج المليشيا الحوثية من محافظات جنوب اليمن- كمنطقة نفوذ أمني وسياسي مستقرة نسبيًا مقارنة ببقية الجغرافيا اليمنية. وعليه، وضمن هذا السياق العام، تأسس المجلس الانتقالي الجنوبي في عام 2017 مستندًا إلى قاعدة شعبية جنوبية، أوجدت واقعا عسكري وإداريا آخذ في الترسخ على مهل، إلى أن أصبح الحامل السياسي والعسكري الرئيسي لقضية الجنوب، وحليفا محليًا موثوقا بالنسبة للأطراف الإقليمية ضد الحوثيين في ما يعرف بالتحالف العربي.


من ثمَ جاء اتفاق الرياض وملاحقه، كمحاولة لإدارة التناقض بين معسكر الشرعية (الحكومة المعترف بها)، والمجلس الانتقالي عبر دمج المجلس الانتقالي في مؤسسات السلطة الرسمية، دون معالجة جوهر مشروعه السياسي. لذا وعلى الرغم من مشاركة الانتقالي في الحكومة، فإنّ الاتفاق تعثر، خصوصًا في شقه العسكري، الذي أصبح غير قابل للتنفيذ في ظل ميزان القوى الجديد.


وعليه تخلّقت مفارقة واقعية للمرة الأولى، حيث أصبح المشروع الجنوبي يمتلك حاملًا سياسيًا منظمًا يسيطر على الأرض، دون أن يملك اعترافًا قانونيًا مستقلًا، في المقابل، تحتفظ الحكومة اليمنية بشرعية دولية يقتصر وجودها على تمثيل دبلوماسي وإداري خارجي لكنها فقدت حضورها الفعلي في الجنوب، بعد سيطرة الانتقالي على محافظات شرق جنوب اليمن [5].


وهذا يقود إلى حقيقة أنّ أي تسوية مستدامة يدعو لها المجتمع الدولي في اليمن دون إعادة تعريف لطبيعة العلاقة بين الجنوب بممثله الأبرز" المجلس الانتقالي" والدولة اليمنية متمثلة "بباقي أطراف الشرعية"، على أسس سياسية واضحة تعترف بالجذور، وتستوعب الواقع الجديد، لن يكون حلاً قابلاً للدخول في طور التنفيذ الفعلي كما سبق وحدث عقب اتفاق الرياض.


قضية الجنوب اليوم هي المحدد الجوهري لضمان سلام مستدام وشامل يؤمن الإقليم ولا يهدده، إذا تمثل في الاعتراف بحق شعب الجنوب في تقرير مصيره كجزء من تسوية سياسية تفاوضية شاملة، وذلك استنادًا إلى قواعد القانون الدولي التي تربط صراحة بين السلم والأمن الدوليين وبين تمكين الشعوب من اختيار مستقبلها السياسي [6].


المرجعيات القانونية الدولية، تؤكد أنّ النزاعات ذات الجذور السياسية والهوياتية لا يمكن احتواؤها عبر التهدئة المؤقتة، أو الحلول القسرية، بل إنّ تجاهلها يؤدي إلى إعادة إنتاج الصراع وتهديد الاستقرار الإقليمي، بما في ذلك الممرات البحرية الحيوية.


لذا فإنّ إدراج قضية الجنوب ضمن مسار تفاوضي يضمن حق تقرير المصير لن يشكل تهديداً للأمن الإقليمي، بل سيكون الضمانة القانونية والسياسية الأساسية لتجفيف مصادر الصراع، وتحقيق سلام قائم على الرضا الشعبي واستقرارًا طويل الأمد، يحوّل مسار المعركة الوطنية لكافة الأطراف اليمنية نحو استعادة صنعاء عوضًا عن الصراع في الجنوب.


وهذا مسار دبلوماسي عبرت عنه الخارجية السعودية، التي أقرت بأنّ «القضية الجنوبية قضية عادلة ذات أبعاد تاريخية واجتماعية، ولن تُحل إلا عبر حوار يجمع كافة الأطراف اليمنية على طاولة واحدة، ضمن مسار سياسي شامل يضمن الحل الشامل في اليمن» [7]، رغم ما أبدتهُ في البيان من تحفظات على تحركات القوات الجنوبية دون التنسيق مع الأطراف الأخرى.


الجنوب في قلب معادلة أمن البحر الأحمر


على المستوى الإقليمي، فالجغرافية الجنوبية تقع في قلب معادلة أمن البحر الأحمر، وخليج عدن، والقرن الإفريقي، وعليه فإن استقرار عدن، وحضرموت، والمهرة، وسواحل الجنوب عامل ارتباط مباشر بأمن الملاحة الدولية، وممرات الطاقة، ومواجهة تمدد الفاعلين من جماعات اللادولة، ووفقاً لهذه المنطلقات، فإنّ من صالح القوى الإقليمية والدولية النظر إلى المجلس الانتقالي باعتباره جزءًا من خطة الحل الأمني لخلق منطقة استقرار محتملة في السواحل والموانئ ونقاط الإسناد البرية المرتبطة بالملاحة في البحر الأحمر [8].


معادلة البحر الأحمر لا تدار بمن يملك الشرعية الدولية فقط، بل بمن يملك القدرة على التعطيل أو المنع، فإذا كان الحوثيون قد تحولوا إلى فاعل إقليمي معطل للملاحة الدولية عبر استهداف السفن التجارية والعسكرية، وربط عملياتهم في معارك إقليمية أوسع، فأنّ الانتقالي بسيطرته على الضفة الجنوبية الآمنة من الممر، يستطيع أن يشكل عامل احتواء للفوضى لا مولدًا لها. فسيطرتهُ على الجزر المؤثرة كأرخبيل سقطرى وجزيرة ميون والموانئ الرئيسية، والثانوية، تمنحه ميزة تنافسية عن باقي الأطراف، وقدرة على المراقبة البحرية، والتحكم بخطوط الإمداد، والتدخل دون كلفة عسكرية باهظة.


يصبح الحل المستدام لقضية الجنوب ممكنًا فقط إذا أعيد تعريفها كقضية سياسية مركزية لا يمكن تجاوزها أو تأجيلها، لا كملف فرعي ضمن الصراع اليمني في معسكر الحكومة المعترف بها. والحل لا يعني بالضرورة الحسم الفوري لشكل الدولة، إنما تحويل الشراكة الحالية بين الأطراف اليمنية والانتقالي في السلطة من شراكة اضطرارية إلى إطار انتقالي منظم يعالج جذور الصراع لا أعراضه الجانبية. ومن ثم يربط أي تسوية قادمة بضمانات إقليمية ودولية تتصل بأمن البحر الأحمر، واستقرار القرن الإفريقي، انطلاقاً من حقائق سياسية واقعية أصبح الجنوب فيها غير قابلًا للإدارة بمنطق مركز القوى التقليدية لما بعد عام 1994.


إعادة الهيكلة وفق المتغيرات الجديدة


يمكن لتبني مقاربة جديدة وفقًا لطبيعة المتغيرات على الأرض، أن تفتح الباب أمام تهدئة قصيرة المدى، تتحقق من خلال تأسيس حكومتين رئيسيتين ضمن إطار شرعية واحدة.


ويكون هذا بحيث تتولى الأولى إدارة المجالات المرتبطة باستعادة السيطرة على صنعاء، مع الاحتفاظ بالوظائف الدبلوماسية والعسكرية والاستراتيجية التي تتطلبها إدارة المعركة فقط، بينما يُناط بالحكومة الثانية إدارة الجنوب المستقر، بما يشمل محافظات شرق جنوب اليمن والسواحل والموانئ، تحت إدارة المجلس الانتقالي الجنوبي لضمان الحكم المحلي الفعّال، والاستقرار الأمني، والاقتصادي.


وهو ما ذهبت إليه المنظمة الدولية للبلدان الأقل نموًا في مداخلة لها أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة [9]، وسبق وطرحه مجموعة من الخبراء والمحللين السياسيين [10]. وتعكس هذه المقترحات، على الرغم من عدم اعتمادها رسميًا حتى الآن، إدراكًا دوليًا، ومحليًا متزايدًا بأنّ الحل السياسي في اليمن يبدأ بإعادة هندسة المجلس الرئاسي بطريقة تمكن من معالجة الانقسامات الداخلية، باعتبارها أداة إصلاحية مرحلية.


وقد تتيح هذه الهيكلة للمجلس الرئاسي فرصة حقيقية لخلق توازن بين المطالب السياسية والتمثيل الشعبي الواقعي، وتخلق مساحة تفاوضية مستقبلية مبنية على مرجعيات جديدة تنظم عملية تقاسم السلطة، والحكم الذاتي الموسع، وتطبيق مبادئ القانون الدولي المتعلقة بحق الشعوب في تقرير المصير.


خاتمة


الحل المستدام في اليمن يمر عبر الجنوب أولاً، وهو القادر على تحويل المنطقة من مصدر توتر إلى قاعدة للاستقرار الإقليمي. ومن هنا تأتي ضرورة زيارة ميدانية عاجلة للأمين العام للأمم المتحدة ومبعوثه الخاص إلى محافظات جنوب اليمن للاستماع مباشرة لإرادة شعبه، والاطلاع عن قرب على الحراك الشعبي السلمي الذي يمثل عامل ضغط مستمرًا على المجلس الانتقالي لتوجيه مشروعه السياسي نحو تحقيق استعادة الدولة، وإدارة الجنوب بشكل فعال ومسؤول.


كما أنه يشكل عامل حسم في دفع الانتقالي الجنوبي لاتخاذ قرارات تربط بين شرعية تمثيله الشعبي، والخيارات الاستراتيجية التي تمثل المصلحة الوطنية والإقليمية، وهو ما يستحق الفهم بعيدًا عن القراءات الأمنية، أو السياسية الجزئية.


زينة الغلابي

باحثة سياسية من عدن، ومدافعة عن حقوق الإنسان والمرأة 

[1] الأمين العام للأمم المتحدة. (17 ديسمبر 2025). لقاء صحفي للأمين العام بشأن اليمن. الأمم المتحدة.

[2] (17 ديسمبر 2025). المجلس الجنوبي اليمني يضطر للتحرك بسبب إخفاقات منافسيه السياسيين. صحيفة ذا ناشيونال.

[3] المجلس الانتقالي الجنوبي. (24 فبراير 2023). بيان المتحدث الرسمي للمجلس الانتقالي الجنوبي: تسوية قضية الجنوب لا تقبل التأجيل أو التسويف. الموقع الرسمي للمجلس الانتقالي الجنوبي.

[4] العلوي، صبري عفيف. (2024). مشروع الوحدة اليمنية 1990–1994: رحلة من التوافق إلى الصراع الدموي. مجلة بريم.

[5] يورونيوز. (18 ديسمبر 2025). المجلس الانتقالي يسيطر على كامل أراضي الدولة الجنوبية السابقة، وحضرموت تمثل 36٪ من مساحة اليمن وتضم أكبر احتياطيات النفط وموانئ رئيسية.

[6] الجمعية العامة للأمم المتحدة. (1960). إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمَرة (القرار 1514 (د-15)).

[7] وزارة الخارجية، المملكة العربية السعودية. (25 ديسمبر 2025). بيان رسمي بشأن التحركات العسكرية للمجلس الانتقالي الجنوبي في محافظتي حضرموت والمهرة.

[8] فوزي، محمد. (2025). موانئ عدن والمكلا وجزيرة بريم وأرخبيل سقطرى في معادلة أمن البحر الأحمر. مركز سوث24 للأخبار والدراسات.

[9] مسارات: مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان. (5 أكتوبر 2025). مداخلة خلال أعمال الدورة الستين لمجلس حقوق الإنسان في جنيف.

[10] الجزيرة نت. (10 ديسمبر 2025). هل ينفرط عقد مجلس القيادة الرئاسي اليمني أمام تعقيدات المحاصصة؟

شارك
اشترك في القائمة البريدية

اقرأ أيضا