صورة أرشيفية مفتوحة المصدر للكابتن هاينز - تم تحسين جودتها بشكل طفيف من خلال تقنية الـ AI (مركز سوث24)
21-11-2025 الساعة 11 صباحاً بتوقيت عدن
|
|
"من المستحيل إنكار أن الكابتن هاينز كان رجلًا صنع نفسه بنفسه؛ مثقفًا، واسع المعرفة، شديد الذكاء، ويستحق قدرًا كبيرًا من الإعجاب. لكن نهايته كانت مريرة، كما عبّرت عنها إحدى الصحف المحلية في بومباي.."
مركز سوث24 | فاطمة جونسون
مع اقتراب الذكرى المئوية لترسيخ الهيمنة البريطانية في عدن، تحرّكت حكومة الهند البريطانية لكبح أي احتفاءٍ رسمي بمسيرة وحياة الكابتن ستافورد بيتسوورث هاينز. فعادة ما يُنسب إلى هاينز الفضل في العملية العسكرية التي أفضت إلى احتلال عدن. ومع ذلك، لا تمنحه الكثير من الأعمال التاريخية أكثر من هذا الذكر العابر؛ ففي أحد أبرز سلاسل كتب روتليدج حول دول الشرق الأوسط («جنوب اليمن: جمهورية ماركسية» لروبرت دبليو. ستوكي، والذي نُشر ثلاث مرات حتى الآن)، لا يُخصَّص لهاينز سوى أربع جُمل فقط. كما أنّ بريطانيا المعاصرة لا تحتفي به كشخصية بارزة في تاريخها الإمبراطوري [1].
وفي برقية مؤرخة في 29 أكتوبر 1936، بعث بها السكرتير الأول لحكومة بومباي إلى وزير الخارجية في حكومة الهند، ورد فيها بوضوح: «بصورة عامة، إن تاريخ الكابتن هاينز يدعو للأسى أكثر مما يدعو للفخر، ومن الأفضل عدم إحياء ذكراه."»[2]. وقبل ذلك بثلاثة عشر عامًا، في عام 1923، تلقّى الوكيل السياسي في عدن (اللواء تي. إي. سكوت) المبرر نفسه من السير إرنست هوتسون، الذي كتب إليه من ماهبالشوار في الهند موضحًا سبب وجوب منع أي مبادرة لإحياء ذكرى الكابتن هاينز.
وعند النظر إلى الأمر لأول وهلة، يبدو ذلك خيانة صارخة لرجلٍ خدم في البحرية الملكية الهندية منذ نحو الثامنة عشرة من عمره، وقضى سنواتٍ في مهام المسح البحري لسواحل جنوب الجزيرة العربية، وقام بالمهمة الشاقة المتمثلة في التفاوض على استسلام عدن، كما كان عالمًا وفنانًا مُلمًّا، وكرّس خمسة عشر عامًا إضافية من حياته لتطوير تلك المدينة التي وصفها اللورد فالنتيا، النبيل الأيرلندي، بأنها «جبل طارق الشرق»، عدن [3]. وقد وصفها هاينز بنفسه بأنها «طفلٌ تبنيته بنفسي» مؤكّدًا أنه سيظل دائمًا «يشعر باهتمامٍ عميق برفاه أهلها وتقدمهم»[4].
رسالة السير هوتسون، 1923
بدأ سقوط الكابتن هاينز من موقع النفوذ إلى هاوية العار في 26 أغسطس 1854، حين أُلقي القبض عليه من قبل شريف بومباي وزُجّ به في سجن مازاغون. وكان السبب وراء ذلك اختفاء مبلغ يُعادل نحو 3.5 مليون جنيه إسترليني بقيمة اليوم (28,198 جنيهًا إسترلينيًا في خمسينيات القرن التاسع عشر) من خزانة عدن. وقد اكتُشف العجز في سبتمبر 1852، أي بعد أربعة أشهر من قرار المحاسب العام لحكومة بومباي إجراء تدقيق في خزانة عدن - في خطوة مثيرة للدهشة جاءت بعد ثلاثة عشر عامًا من السيطرة الإمبراطورية على عدن، رغم أن عمليات التدقيق كان يفترض أن تُجرى شهريًا منذ عام 1839.
وبمجرد إجراء التدقيق أخيرًا، كشفت عمليات الفحص ولجنة التحقيق اللاحقة ليس فقط الأموال المفقودة، بل أيضًا ممارسات مالية غريبة اتبعها هاينز. فعلى سبيل المثال، اعترف هاينز بأنه سمح للتجار باستبدال الروبيات بـ «دولار ماريا تيريزا» (العملة المتداولة في الإمبراطورية الهابسبورغية)، ثم سمح لهم لاحقًا باستعادة الروبيات. وتجدر الإشارة إلى أن الروبية في ذلك الوقت لم تكن معتمدة في التجارة الداخلية باعتبارها عملة جديدة، بينما كانت دولارات ماريا تيريزا هي العملة الأكثر قبولًا واستخدامًا.
كما استخدم هاينز خدمات أحد المصرفيين يُدعى «دامجي» دون إبلاغ حكومة بومباي، بل وحصل منه على سلف مالية. إضافة إلى ذلك، قدّم هاينز قروضًا لموظفيه ولعدد من المستثمرين العقاريين - ومن بينهم من اقترض لتحسين أحد الفنادق في عدن - رغم أن الأموال المستخدمة كانت أموالًا عامة. واكتشفت اللجنة أن جميع السجلات الحسابية مكتوبة باللغة الغوجاراتية، رغم أن هذه اللغة لم تكن معروفة للجميع. وقد قدمت اللجنة، برئاسة الميجور سكوبـي والسيد أرتشيبالد روبنسون، تقريرها إلى حكومة بومباي، التي خلصت إلى أنّ هاينز ارتكب عملية احتيال. وفي 22 فبراير 1854 تم إبلاغه بإعفائه من منصبه كوكيل سياسي لعدن، مع توجيهه للمثول أمام الحكومة في بومباي. لا شك أن هذا القرار جاء صادمًا للرجل الذي حكم عدن فعليًا لمدة خمسة عشر عامًا، والذي كان يعتقد أن أقصى ما قد يواجهه هو اللوم بشأن الأموال المفقودة. مستخدمًا كلمة «wigging» (تأنيب بسيط)، التي أصبحت الآن جزءًا من الإنجليزية القديمة.
كان هاينز بارعًا في الإدارة السياسية والاستراتيجية العسكرية، إلا أنّ الشؤون المالية لعدن فضحت عدم نضجه في هذا المجال. ومن المفارقات أنه، رغم خطورة التهم الموجهة إليه، وصل إلى بومباي في أبريل 1854 محمّلًا بـ49 سروالًا، و33 قميصًا جديدًا، و13 كيسًا للوسائد، إلى جانب الكثير من المتاع الفاخر- مما يعكس مدى ابتعاده الكلي عن حساسية الموقف - وقد سُلبت منه سلطته بعد ذلك [5].
عادة ما يجرى تناول تاريخ الكابتن هاينز عادة بعبارات جافة: رجلٌ أمضى خمسة عشر عامًا من الخدمة الناجحة في عدن كإداري وممثل سياسي، ومؤسس أول موطئ قدم للإمبراطورية البريطانية في عهد الملكة فيكتوريا، وهو موقع اكتسب أهمية كبرى في خطوط الاتصال البحرية البريطانية مع الشرق [7]. ورغم صحة كل ذلك، فإنه يخفي جانبًا آخر من شخصيته. فكثيرًا ما يُساء تصويره أحيانًا باعتباره “مغامرًا جسورًا” (7). لكن السجلات تثبت أن من قاد القوة المشتركة من الجنود والبحّارة الذين اقتحموا عدن لم يكن هاينز، بل الكابتن سميث، والكابتن ج. م. ويلوبي، والميجور ت. بايلي. وقد استخدم هؤلاء مدافع من النحاس والحديد، وقُتل أربعة جنود وجُرح عشرة من الجانب البريطاني (من بينهم «بيهِسْتي» من قبيلة هندية مسلمة تزعم انحدارها من عباس بن علي).
قد يكون سميث ويلوبي وبايلي هم من نفّذوا العملية العسكرية المطلوبة، لكن ما قام به هاينز هو تولّي الإدارة السياسية اللازمة لعدن. ففي 22 يناير 1839، كتب هاينز إلى سكرتير حكومة بومباي يبلغ فيه أن أولى خطواته كانت “تشجيع سكان عدن على مزاولة أعمالهم المعتادة”، وأنه راسل السلطان حسين وحامد، وكذلك زعماء قبائل العزيبي، والعقربي، والحوشبي، عارضًا تزويدهم بالمساعدة الطبية وتوفير تبادل حر داخل عدن. وتشير الرسالة نفسها إلى أن هذه الجهود كانت “ناجحة تمامًا”، وأن زعماء القبائل عبّروا جميعًا عن موقفٍ ودي تجاهه، وأرسلوا الإمدادات والجمال لمخازن الحكومة. أما الإجراء الثالث لهاينز فكان الكتابة إلى مختلف الموانئ الساحلية وإبلاغها بأن عدن باتت مفتوحة للتجارة بوصفها ميناءً بريطانيًا [8].
بعيدًا عن الصورة الشائعة لرجال الإمبراطورية بوصفهم مجرد مغامرين، كان هاينز متمكنًا بعمق من العلوم والفنون. فقد انخرط خصوصًا في العلوم التطبيقية ورسم الخرائط. وقد قدّم أبحاثًا جغرافية لـ الجمعية الجغرافية في بومباي [9] شملت رصد المد والجزر ومتابعة الظواهر الجوية. كما وضع وأسهم في وضع عدد كبير من الخرائط منذ عام 1828.
في ذلك العام، نفّذ مسحًا تطلّب خبرة واسعة في الهيدروغرافيا الخاصة بسواحل الجزيرة العربية، مستخدمًا مبادئ علم المثلثات لإنشاء شبكة نقاط تمتد من رأس جبرهندي إلى رأس سواتي [10]. كما أنجز مسحًا آخر لمدخل الخليج الفارسي [الخليج العربي - اليوم] وساحل الجزيرة العربية من رأس جبريندي إلى مسقط في الفترة نفسها، ونُشر لاحقًا عام 1831 (11). وفي عام 1835، نُشر مسح مثلثي آخر لجزيرة سقطرى أجراه هاينز، وذلك على يد أحد مختصي الخرائط البحرية في شركة الهند الشرقية. وقد تضمّن هذا المسح خريطة فرعية تُظهر جزيرتي سمحة ودرسة، مع ملاحظات عن الغطاء النباتي وطبيعة التضاريس ومواقع “كهوف البدو”، إضافة إلى قياسات أعماق المياه الموضّحة بالأرقام [12].
وتظهر دراسة خريطة أعدّها الكابتن هاينز عام 1850 بوضوح أنه كان رسّامًا ماهرًا قادرًا على إنتاج خرائط تضاريسية دقيقة. فالخريطة المرسومة بالحبر على قماش شفاف، والتي تغطي الجزء الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة العربية من الحديدة إلى وادي ميفعة، استخدمت خطوط الانحدار التضاريسي لتمثيل شدة انحدار الجبال والمرتفعات، كما تضمنت معلومات عن الإنتاج الزراعي ومناطق نفوذ القبائل [13]. وفي عام 1845، نشرت الجمعية الجغرافية الملكية خريطة منقوشة وضعها هاينز لمسح أجراه عام 1839 لجزء من الساحل الجنوبي الشرقي للجزيرة العربية. وقد اكتسب هذا العمل أهمية خاصة لأن المنطقة التي مسحها لم تكن قد سُجّلت أو رُسمت لها خرائط من قبل، وتظهر في الخريطة منطقة وُصفت بأنها “غير مستكشفة”. تظهر خطوط الـ الانحدار التضاريسي في هذه الخريطة كما في خرائطه الأخرى، إلى جانب الإشارة إلى القرى والبحيرات العذبة والأراضي المروية. وتمتد الخريطة من وادي المسيلة إلى جبل صفّان، كما تُظهر جزيرة مصيرة وخليج خوريا موريا (عُمان). وتسبق هذه الخريطة افتتاح قناة السويس (1869) بأكثر من عقدين، ما يجعلها مصدرًا أوليًا نادرًا. وقد اشترتها المؤلفة [فاطمة جونسون] مؤخرًا من بائع كتب قديمة في فيينا يحتفظ بمصادر نادرة أخرى مرتبطة بالكابتن هاينز.
إن خرائط الكابتن هاينز تمثل في الوقت نفسه معادلات علمية دقيقة وتحفًا فنية بالغة الجمال. والأهم من ذلك أنّ إنتاجه المعرفي الغزير يبدو واقعًا في موضعٍ وسط بين ادعاء إدوارد سعيد في الاستشراق بأن المعرفة البريطانية في القرن التاسع عشر كانت جزءًا لا ينفصل عن فرض القوة الإمبراطورية، وبين أطروحة روبرت إيروين في من أجل شهوة المعرفة: المستشرقون وأعداؤهم التي تقول إن الدافع كان في جزء كبير منه هوسًا مشتركًا بالبحث العلمي. وكما يذكر إيروين:
«لقد أصبح عدد متزايد من الباحثين عمومًا مقتنعين بأن المعرفة تُبنى اجتماعيًا، وأن تطورات معقدة تساهم في تشكيل فهمنا للعالم.» [14]
مسح جزء من الساحل الجنوبي الشرقي للجزيرة العربية، نُشر عام 1845، تم إعداد هذه الخريطة بواسطة الكابتن هاينز، واشترتها المؤلفة من بائع كتب في فيينا
كان هاينز يُبدي اهتمامًا بالغًا بأي قطع أثرية تُكتشف في عدن. فعندما عثر المهندس التنفيذي في عدن، الملازم جون أدي كيرتس، على نقش بخط المسند (الخط العربي الجنوبي القديم – الحميري) محفور على قطعة من الرخام المتكوّن من الصواعد، المصقول والمقطوع بعناية، إلى جانب سبع عملات ذهبية وُصفت بأنها «عملات إسلامية ذهبية» وكان يُعتقد في البداية أن عمرها نحو 340 عامًا، انشغل هاينز - وقد استبدّت به روح الباحث الأثري - بنسخ النقش الحميري بنفسه، وأرسل النسخة مع رسالة إلى حكومة بومباي بتاريخ 29 سبتمبر 1842.
وأُمِر بشحن قطعة الرخام ونقلها إلى القسم الفارسي في بومباي لفحصها، كما أُرسلت العملات الذهبية أيضًا. وتمّ تزويد الجمعية الآسيوية الملكية بمعلومات حول هذه المكتشفات، وتولّى القسم الفارسي ترجمة وقراءة النقش الموجود على العملة الوحيدة التي أمكن فهم كتابتها، وقد حملت العبارة:
«لا إله إلا الله ومحمدٌ رسول الله… السلطان الملك النبيل 1125».
وفي 14 نوفمبر 1842، تلقّى هاينز تعليمات بضرورة إرسال أي آثار أو مكتشفات مشابهة يُعثر عليها في عدن لاحقًا [15].
نسخة من نقش حميري قديم بخطّ هاينز، 1842
لم يكتفِ هاينز بانشغاله بالفلسفة الطبيعية والفنون والآثار، بل ألّف أيضًا في عام 1845 كتابًا تاريخيًا بعنوان «تاريخ الأسرة الحاكمة في لحج». ويذكر جون إم. ويليس في كتابه «جعل اليمن هنديًّا - وهو عمل يركّز أساسًا على تفكيك التصورات اللاحقة للحرب حول الشرق الأوسط وعلاقتها بجنوب اليمن - أن السردية التي وضعها هاينز تحولت لاحقًا إلى التاريخ المؤسسي لسلطنة لحج. يتتبع هذا السرد تاريخ السلطنة العَبْدَلِيّة. ويشير ويليس إلى أن هاينز عقد مقارنة بين ماضي بريطانيا في العصور الوسطى وماضي لحج، وذلك من خلال وصفه السجلّ التاريخي العبدلي المعروف بـ «الدائرة» بأنه بمثابة «كتاب يوم الحساب» البريطاني، في إشارة إلى تطور سياسي يقود نحو نشوء دولة حديثة.
ويمضي ويليس موضحًا أن هاينز منح أهمية كبيرة للسنة 1141 هـ / 1728 م. ففي هذا العام، وفق رواية هاينز، تمكن السلطان فضل بن علي العَبْدَلِي من صدّ سيادة الإمامة الزيدية في شمال اليمن، وأسس كيانًا سياسيًا مستقلًا في لحج وعدن. ويرى ويليس أن تركيز هاينز على هذه السنة كان هدفه تصوير الحكم البريطاني باعتباره امتدادًا طبيعيًا لحكم آل العبدلي - أي على أنه مجرد انتقال للسلطة - كما أنّه قدّم البريطانيين على أنهم حماة «القبائل التسع» التي يُزعم أنها شاركت في حركة تحرر ضد النفوذ الشمالي منذ عام 1728 [16].
«لم يكن هاينز يغادر منزله في عدن إلا ومسدسين في حزامه» [17]. على الرغم من أن هاينز أدار عدن لسنوات وكأنها إقطاعية تخصه [18]، فإن موقعه لم يكن يومًا آمنًا بالكامل. ففي البداية، لم يكن جيمس ريفِت-كارناك (حاكم رئاسة بومباي بين 1838 و1841) يرغب في أن تصبح عدن مستوطنة بريطانية دائمة. كما أن القوات العسكرية المرابطة في عدن لم تُوضع تحت قيادة هاينز، وهو ما خلق انقسامًا في السلطة جعله في كثير من الأحيان يدخل في صدامات دامية مع المؤسسة العسكرية. كانت أول مواجهة له مع الميجور بايلي بعد ستة أشهر فقط من احتلال عدن. ثم دخل في صراع جديد مع العقيد كابون الذي خلف بايلي في المنصب. وتكررت التوترات بين السلطة السياسية والقيادة العسكرية في عدن خلال سنوات 1841 و1846 و1847. ويشير المؤرخ البارز ر. ج. غافن إلى أن الكابتن هاينز كان شديد الحساسية تجاه أي إهانة شخصية، كما تكشف رسائله الخاصة، أن هذه الحساسية، إلى جانب نظامه الإداري المرتبك، واعتقاده الراسخ بأن عدن ملكٌ له، أدّت إلى أزمة تلو أخرى مع الحامية العسكرية [19].
رغم التحديات التي واجهها من الجناح العسكري في عدن، فإن الهيمنة السياسية لهاينز كانت راسخة بفضل تحالفه مع النخب العربية. فقد كان يتحدث العربية بطلاقة (وكان قادرًا أيضًا على قراءة العبرية)، ولم يكن يُبقي العرب على مسافة منه، بل كان يفضّل مجالستهم على صحبة الأوروبيين. وقد اختار الانخراط الكامل في المشهد السياسي المحلّي وما يحمله من صراعات داخل الدائرة العربية في عدن. إذ أسّس هاينز شبكة واسعة من الوكلاء العرب (واليهود أيضًا)، كانوا يزوّدونه بمعلومات دقيقة من داخل عدن، ومن مناطق جنوب اليمن الداخلية، وكذلك من شمال اليمن. وبالعمل مع التجار ورجال الأعمال العرب، تمكن من ممارسة نفوذ كبير عليهم وضمان ولائهم مقابل ما قدّمه لهم. وكان يُقال إنه هو نفسه كان يُظهر ولاءً شديدًا لهذه الدائرة العربية من المقربين إليه: «لقد أظهر تفضيلًا واضحًا للعرب الكوزموبوليتانيين على طول الساحل - أولئك الرجال الذين ينتمون إلى كل بلد ولا ينتمون إلى أي بلد، المتحررين من العصبيات القبلية والمشككين في المعتقدات الدينية. هؤلاء هم الرجال الذين أحبهم هاينز ووثق بهم[20].» ومن اللافت، في المقابل، الطريقة التي قدّم بها الأكاديمي الراحل الأستاذ سي. إي. فاره (أستاذ دراسات الشرق الأوسط بجامعة مينيسوتا) صورة هاينز، إذ وصفه بأنه متسلّط وماكر ومتعجرف - وهي أوصاف تبدو متأثرة بحكم قيمي أكثر من كونها قراءة موضوعية للسلوك [21].
وتتعارض رؤية فاره بشدة مع ما فعله هاينز في محاولة ناجحة للحفاظ على عدن تحت إدارة مدنية بدلًا من الإدارة العسكرية. ففي فبراير 1840، شنّ العقيد كابون سلسلة مداهمات على سوق عدن بحجة البحث عن معامل تقطير غير مرخصة وكحول مهربة، مدعيًا أن له سلطة كاملة على السوق باعتبار أن عدن كلها معسكر عسكري. وتلقّى هاينز سيلًا من الشكاوى، منها شكوى غورلب بن موجر بن حامد الذي أخبره أن جنديًا هنديًا من حرس السوق لكمه وهدده ببندقيته، رغم أن بن حامد لم يكن يفعل شيئًا سوى الوقوف والتحدث قرب متجر إبراهيم اليهودي. أحال هاينز القضية كاملة إلى حكومة بومباي، وتمكن من كسب تأييدها لإبقاء عدن تحت السيطرة المدنية بدل العسكرية [22].
وأثبت هاينز كذلك حساسية ملحوظة تجاه الممارسات الدينية في عدن. فبحلول مارس 1839 - أي بعد أسابيع قليلة من بدء الاحتلال البريطاني - سمح بإقامة زيارة [ضريح] السيد العيدروس، وهي مهرجان سنوي يحيي ذكرى وفاة وليّ صوفي. وقد أحصى المؤرخ العدني الشهير حمزة لقمان أربعة عشر مسجدًا في عدن التاريخية في كتابه (تاريخ عدن)، وبعضها يحتوي على أضرحة تعود للعصور الوسطى، ما يدلّ على إدراك هاينز للعمق الروحي والتاريخي للمدينة عند سماحه بإقامة الزيارة. وقد ذكر هاينز في تقاريره أن آلاف الصوفية حضروا زيارة السيد العيدروس [23].
في ما يتعلق بتجربة هاينز اليومية كوكيل سياسي لعدن - وهي فترة لم يحصل خلالها على إجازة طوال خمسة عشر عامًا إلا مرة واحدة بسبب المرض - فإن حساسيته المفرطة لم تجرّ عليه المشكلات مع الحامية العسكرية فحسب، بل كلفته أيضًا صداقة امتدت ثلاثين عامًا. ففي 27 أكتوبر 1846، كان هاينز يتناول العشاء مع الكابتن روبرت كوجان، الذي كان قد تقاعد حديثًا من البحرية الهندية ليستقر في عدن، ومع الكابتن جورج جيمس دنكان ميلن . وخلال الأمسية، تفوّه كوجان بإهانة موجّهة إلى زوجة هاينز (ماري). فاندلع جدال حاد، صاح خلاله ميلن في وجه كوجان قائلاً: «تبًّا لآرائك»، فردّ كوجان: «وتبًّا لك أنت أيضًا». كاد هذا التبادل أن يتحول إلى اشتباك جسدي حين حاول ميلن الانقضاض على كوجان، لولا أن هاينز منعه، حتى لا تضطر السيدات الحاضرات إلى مشاهدة ذلك المشهد. بعد ذلك، وصف كوجان هاينز بأنه «شخص بارد الدم». وبعد أن هدأت الفوضى، حرص هاينز على أن يعود الجميع إلى منازلهم. وبصفته أيضًا قاضيًا في عدن، أصدر أوامره لأحد رجال الشرطة بمراقبة كوجان ومنعه من مغادرة منزله تلك الليلة.
في صباح اليوم التالي، تلقّى هاينز رسالة من كوجان، عبّر فيها عن ندمه على ما بدر منه، لكنه أصر على أن هاينز كان «مستفزًا». أثار ذلك غضب هاينز، فردّ عليه برسالة أعلن فيها إنهاء صداقته به إلى الأبد. وعندما حاول كوجان مغادرة منزله، أُلقي القبض عليه عن طريق الخطأ. وقد فُتح تحقيق في الحادثة بعد تقدّم كوجان بشكوى إلى الحاكم في الهند. وفي نهاية المطاف، خلصت حكومة بومباي إلى أن هاينز كان محقًّا في إعطاء الأولوية لحفظ الأمن في عدن من خلال تقييد حركة كوجان. ولسوء الحظ، توفي كوجان في العام التالي [24].
سجلّ الكابتن هاينز حول المشادة بين كوجان وميلن
على خلاف السرديات الشائعة داخل خطاب حركة تفكيك الاستعمار في الأوساط الأكاديمية البريطانية، والتي تقدّم تاريخ الإمبراطورية البريطانية بوصفه تاريخًا للعنصرية والقمع، تكشف السجلات المتوفرة عن جانب آخر من واقع الإدارة البريطانية في عدن، يظهر فيه هاينز- بصفته قاضيًا - ناشطًا في ملاحقة تجار الرق وتقديمهم للمحاكمة [25]. فقبل صدور قانون إلغاء الرق في بريطانيا عام 1833، كان قانون الهند لعام 1784 قد أنشأ مجلسًا جديدًا للإشراف على شركة الهند الشرقية وتطبيق إجراءات لحماية الأطفال من الوقوع في أيدي تجار العبيد. وفي إحدى القضايا، قدّم هاينز معلومات إلى جي. إتش. باتون، كبير القضاة في كالكوتا، تفيد بوجود طفل يُدعى نصيب على متن سفينة تُسمّى (عدن ميرشانت) كانت راسية في ميناء كالكوتا. فتح باتون تحقيقًا في نوفمبر 1843، لكن نصيب أنكر كونه عبدًا. غير أن هاينز رفض قبول هذا الإنكار.
كان هاينز مقتنعًا تمامًا بأن علي عبد الله، المكلّف بالإشراف على شحنة السفينة، هو في الواقع تاجر رقيق، وأن الناس يخشون الإدلاء بشهادتهم ضده. وقد دفعه غضبه مما اعتبره تسترًا إلى أن يكتب إلى سكرتير حكومة بومباي موضحًا أن عدن كلها تعرف أن علي عبد الله تاجر عبيد. وبناءً على خطابه، مُنح هاينز إذنًا بإجراء تحقيق كامل مع علي عبد الله عند عودته إلى عدن. عاد علي عبد الله بالفعل، لكن الطفل نصيب كان قد اختفى - وتبيّن لاحقًا أنه أُرسل إلى جِدة مع أطفال آخرين يُشتبه في أنهم ضحايا للرق. وعندما بدأ هاينز التحقيق، رفض علي عبد الله الإجابة عن أي سؤال، مكتفيًا بالقول أنه «ابن» هاينز ولا يملك ما يضيفه. ومع ذلك، واصل هاينز جهوده ونجح في تقديمه للمحاكمة بتهمة تجارة العبيد. ورغم أن الحكم النهائي صدر بعدم ثبوت التهمة بسبب نقص الشهود، وتم إسقاط القضية في أغسطس 1844، فإن مجمل ما تكشفه الوثائق يعكس بوضوح أنّ «الروح الإصلاحية المسيحية والإنسانية» [26] التي سادت الإدارة البريطانية في الهند كانت أيضًا حاضرة بقوة في شخص الكابتن هاينز، بالنظر إلى الجهد الكبير الذي بذله لجلب مشتبه به إلى العدالة. وتنسجم هذه الروح الإصلاحية مع ما كتبه هاينز في مذكراته، إذ يستعيد فيها تاريخ عدن، ويذكر أنها قبل قرنين ونصف من الاحتلال البريطاني كانت واحدة من أعظم الأسواق التجارية في الشرق، بإرث تجاري يعود إلى القرن الرابع الميلادي [27].
ضفاف نهر الهوغلي في كالكوتا، القرن التاسع عشر
بعد وصوله إلى بومباي في أبريل 1854، وجد هاينز نفسه سريعًا في مواجهة حكم المحكمة العليا في بومباي. فكانت محاكمته الأولى في يوليو 1854 أمام هيئة محلفين، بتهم بلغت اثنتين وعشرين تهمة تتعلق بسوء الإدارة والاختلاس، قيل إنها ارتُكبت بين 1 مارس و1 سبتمبر 1852. تولّى الدفاع عنه المحامي جيفري تايلور، فيما أعلن هاينز براءته أمام القاضي السير تشارلز جاكسون. وعلى الرغم من استدعاء العديد من الشهود من عدن للإدلاء بشهاداتهم ضدّه - من بينهم التاجر العربي علي بو بكر - إلا أن هيئة المحلفين أصدرت حكمًا بالبراءة. وفي أغسطس 1854، خضع لمحاكمة ثانية أمام القاضي جاكسون أيضًا، وانتهت كذلك بحكم براءة. لاحقًا كتب هاينز في رسالة أن الهتافات دوّت في قاعة المحكمة وعلى طول الشارع عند إعلان الحكمين.
غير أن الفرح الذي رافق صدور البراءتين سرعان ما انقلب إلى مأساة. فقد رفضت حكومة بومباي قبول الحكمين، وقامت بتحويل القضية الجنائية إلى دعوى مدنية، مطالِبة بإعادة كامل المبلغ المفقود من خزانة عدن. حاول هاينز التوصل إلى تسوية، عارضًا التنازل عن ممتلكاته في عدن والخارج، باستثناء ثلاثة أشياء طلب الاحتفاظ بها: مجموعته من الطيور المحنّطة، ومجوهرات زوجته، والسيف الذي أُهدي إليه في يناير 1839. وافقت حكومة بومباي على العرض، لكن هاينز ارتكب خطأ فادحًا حين سحب عرضه بعد أن علم بأن الحكومة تشترط أن التسوية لا تعني مطلقًا تبرئته من التهمة. فاختُتمت القضية المدنية في مدة لم تتجاوز خمس عشرة دقيقة في 4 يناير 1855، وحُكم على هاينز بدفع المبلغ المفقود - وهو 28,198 جنيهًا إسترلينيًا، لمصلحة شركة الهند الشرقية. وبعـد صدور الحكم، ألقي القبض على هاينز وزُجّ به في السجن. لاحقًا، شُطِب اسم هاينز من سجلات البحرية الهندية، وتم بيع ممتلكاته في عدن. ولمدة من الزمن، مُنح إطلاق سراح مؤقت من السجن ونُقل إلى عهدة شريف بومباي بسبب تدهور صحته الجسدية والنفسية، رغم أنه كان تحت المراقبة الدائمة حتى أثناء الأكل والنوم.
وبحلول أغسطس 1855، حاولت حكومة بومباي السماح له بالعودة إلى إنجلترا أو على الأقل العيش بحرية داخل بومباي، لكن شركة الهند الشرقية رفضت ذلك رفضًا قاطعًا. ووصف المؤرخ الإمبراطوري غوردون واترفيلد هذا القرار بأنه: «قرار أحمق وشرير يعادل حكمًا بالإعدام» [28]. تقدّم هاينز بطلبين للإفراج من عهدة شريف بومباي، لكن كليهما رُفض. ولم يُظهر له أي قدر من الرحمة إلا حين تولّى السير جورج كليرك منصب حاكم بومباي، فأمر بالإفراج عنه في 9 يونيو 1860 بعد قراءته العرائض الخمس التي قدّمها هاينز، لكن الأوان كان قد فات. فبعد أيام قليلة فقط، وتحديدًا في 16 يونيو 1860، توفي هاينز في ميناء بومباي على متن السفينة بويسيتييرس إثر إصابته بالزحار الأميبي. ولا يزال جثمانه في الهند، مدفونًا في مقبرة كنيسة كولابا [29].
تاريخ الكابتن هاينز هو قصة إعجابٍ وأسفٍ معًا. أقول ذلك لأن الشفقة تَشي بتعالٍ، بينما الفخر في هذا السياق ضربٌ من الوهم. فالبريطانيون لم يدفعهم إلى احتلال عدن مجدٌ عسكري، بل الخوف - أولًا من التوسع الفرنسي، ثم من التمدد المصري - وكان نجاح الاحتلال يعني حرمان خصومهم من الوصول إلى الممرات الغربية المؤدية إلى الهند البريطانية [30]. لم يكن مطلوبًا أن يتحقق في عدن «إنجاز عسكري عظيم»[31]. فقد استطاعت جهود الكابتن هاينز - في آنٍ واحد - تحييد هذه التهديدات، وفي الوقت نفسه تحويل عدن إلى مركز تجاري مزدهر، ولا يوجد الكثير مما يمكن الافتخار به في استراتيجية بُنيت على الخوف.
ومع ذلك، يكاد يكون من المستحيل إنكار أن الكابتن هاينز كان رجلًا صنع نفسه بنفسه؛ مثقفًا، واسع المعرفة، شديد الذكاء، ويستحق قدرًا كبيرًا من الإعجاب. لكن نهايته كانت مريرة، كما عبّرت عنها إحدى الصحف المحلية في بومباي في رثاء قاسٍ:
**«لقد أُسدل الستار أخيرًا على فصلٍ مظلم في تاريخ حكومة بومباي. ولن تجد صفحة أشد كآبة من هذه، إلا ربما في سجلات سوء الحكم في نابولي. فمجرد مدين - إن كان مدينًا أصلًا- ظلّ مسجونًا قرابة ست سنوات، في مناخ قاتل، بناءً على دعوى من الحكومة نفسها التي خدمها بحماسة وقدرة لا نظير لهما. وماذا كان يمكن أن يحدث له لو أُدين فعلًا بالاحتيال والاختلاس اللذين وُجّها إليه بكل شدة؟ قوته لم ينازعها أحد، لأن الجميع اعترفوا بأنها كانت تُمارس بعدل وحكمة… لكن الكابتن هاينز، رغم كونه إداريًا بارعًا، لم يكن محاسبًا جيدًا. غالبًا لم يكن يعرف شيئًا عن مسك الدفاتر المزدوجة، ولم يكن أكثر دراية بالماليات من معرفة الماليين بالملاحة. لقد حثّ الوكيل السياسي مراراً رؤساءه على إصلاح الإدارة المالية وجعلها أكثر أمناً، لكن دون جدوى… فقد كانوا مشغولين بأمور أخرى، لا يجدون وقتاً للتفكير في صخرة عدن الملتهبة…»**[32].
السابق: