التقارير الخاصة

أطفال داون في اليمن: بين الوصمة الاجتماعية ومحاولات الاندماج

أطفال مصابون بمتلازمة داون في مركز (سن رايز) للتوحّد والإعاقة الذهنية في صنعاء، 5 أكتوبر 2025 (مركز سوث24)

آخر تحديث في: 23-10-2025 الساعة 7 مساءً بتوقيت عدن

"تقبّل الأهل لطفلهم علنًا ودعمه أمام الآخرين هو الحاجز الأول في مواجهة الوصمة، لأن الدعم العاطفي الداخلي ينعكس مباشرة على تطور الطفل.."

مركز سوث24 | فاطمة العنسي، سارة نويجع


في بلد أنهكته الحرب وتقلّصت فيه مساحة الأمل، يخوض الأطفال المصابون بمتلازمة داون معركة مزدوجة؛ معركة ضد وصمةٍ اجتماعيةٍ متجذّرة، وأخرى ضد غياب مؤسسيٍ يتركهم دون تعليمٍ أو رعايةٍ أو حمايةٍ قانونية.


ورغم أن هذه المتلازمة ليست مرضًا بل اختلافًا جينيًا بسيطًا، فإنها في اليمن تتحول إلى حكمٍ اجتماعيٍ قاسٍ يضع هؤلاء الأطفال على هامش الحياة.


لكن في مقابل هذا الواقع، تظهر مبادرات خجولة ومراكز متواضعة تحاول أن تُعيد لهؤلاء الأطفال حقهم في الدمج، والفرح، والحياة.


التقرير التالي لمركز سوث24 يتتبع رحلتهم بين الوصمة والقبول، ويفكك جذور التهميش في مجتمع أنهكته الأزمات، ليكشف كيف يمكن للحب والوعي أن يكونا علاجًا أقوى من أي دواء.


الوصمة الاجتماعية 


في اليمن، لا يواجه الأطفال المصابون بمتلازمة داون ضعف القدرات الجسدية أو الذهنية فحسب، بل يصطدمون أيضًا بجدارٍ من الوصمة الاجتماعية التي تبدأ داخل المنزل وتمتد إلى المجتمع. فالخجل من "الاختلاف" لا يزال حاضرًا في ثقافة كثير من الأسر، حيث تُخفي بعض العائلات أبناءها عن الأنظار خشية نظرات الناس أو حديثهم، وكأن الإصابة بمتلازمة داون عارٌ يجب التستّر عليه.




تؤكد الطبيبة النفسية هند الشجاع أن هذه المشاعر تترك ندوبًا عميقة في نفس الطفل. وقالت لمركز سوث24: "شعور الأهل بالخجل أو الخوف من نظرة المجتمع لطفلهم ينتقل إليه فيدرك خجل والديه منه، مما يولد لديه إحساسًا بالنقص والرفض ويزيد من احتمالات القلق والعزلة لاحقًا".


هذا الإدراك المبكر – كما توضح الشجاع – يُحدث خللًا في التواصل العاطفي بين الأهل والطفل، فينشأ الأخير في بيئة حذرة ومترددة، تُقيّد تفاعله مع الآخرين وتضعف ثقته بنفسه.


وتشير إلى أن عزل الطفل عن المجتمع في سنواته الأولى يؤدي غالبًا إلى تأخر لغوي واجتماعي، وإلى خوفٍ مفرطٍ من التجارب والمواقف الجديدة، لأن الطفل لم يتعلّم أن يتعامل مع الآخرين خارج دائرة الأسرة الضيقة.


توضح الشجاع أن تقبّل الأهل لطفلهم علنًا ودعمه أمام الآخرين هو الحاجز الأول في مواجهة الوصمة، لأن الدعم العاطفي الداخلي ينعكس مباشرة على تطور الطفل وتوازنه النفسي. أما إخفاؤه أو الخجل منه فيحوّله إلى حالة مزدوجة من الانعزال: عزلة نفسية داخل الأسرة، وعزلة اجتماعية في الخارج.


محاولات الاندماج 


رغم صعوبة الصورة الاجتماعية، لم يخلُ المشهد اليمني من ومضات أمل ملهمة سعت إلى دمج أطفال متلازمة داون في الفضاء العام. غير أن هذه المبادرات غالبًا ما كانت قصيرة العمر، تنهض بدافع الحماس الإنساني ثم تتهاوى أمام عواصف الحرب وتراجع التمويل.


تقول رجاء المصعبي، الخبيرة الدولية في حقوق الإنسان وذوي الإعاقة، لمركز سوث24: "محاولات دمج أطفال داون في أنشطة مخصصة للأطفال، مثل ورش الرسم والحفلات والمهرجانات والجلسات التعليمية، بدأت منذ وقت قصير عبر عدد من منظمات الطفولة مثل اليونيسف والجمعيات الإنسانية، لكنها توقفت بسبب الصراع القائم".


هذا التوقف، كما تشرح المصعبي، لم يكن مجرد انقطاع في النشاط، بل انقطاع في الأمل. فالحرب التي دمّرت البنية التحتية أجهزت أيضًا على المساحات الإنسانية التي وُلدت فيها هذه المبادرات، وأغلقت كثيرًا من الجمعيات والمراكز التي كانت تحتضن الأطفال وتمنحهم بيئة آمنة للتعلم والتفاعل.


ويظلّ التعليم أكثر الميادين حساسية في مسار دمج أطفال متلازمة داون، إذ يشكّل بوابةً نحو بناء الشخصية وتنمية القدرات واكتشاف الذات. لكن هذا الباب في اليمن غالبًا ما يُفتح بشقٍّ صغير، لا يسمح بمرور جميع الأطفال إليه.


تؤمن الأستاذة آمنة الصبّان، مديرة مركز التوحّد والإعاقة الذهنية بمحافظة المهرة، بأن دمج أطفال متلازمة داون في الفصول الدراسية العادية هو مفتاح بناء الثقة وتحفيز القدرات.


وأضافت لمركز سوث24: "الدمج يساعد الأطفال على التفاعل مع أقرانهم والشعور بالمساواة، ما يبدد الإحساس بالاختلاف، ويشجعهم على المشاركة الاجتماعية والتعلّمية، لاسيما أن أطفال داون يمتلكون سمة فريدة وهي حب التقليد، ما يجعلهم يكتسبون المهارات والسلوكيات الإيجابية بسرعة من زملائهم في الصف".


لكن هذا الدمج لا يخلو من صعوبات، كما تضيف الصبّان، إذ يواجه بعض الأطفال تنمرًا أو عزلة داخل البيئة المدرسية، إضافة إلى صعوبات أكاديمية ناجمة عن القصور الذهني النسبي.


وترى الصبّان أن جوهر المشكلة يكمن في طبيعة المناهج التعليمية، فالمقررات الحالية لا تراعي احتياجات هذه الفئة. وتوضح أن المناهج الخاصة بأطفال داون يجب أن تقوم على التعلّم النشط واستخدام الوسائل البصرية والتطبيقية بدلًا من التلقين التقليدي، لأن التجربة والممارسة أكثر فاعلية من الحفظ المجرد.


وتشير الصبّان إلى أن المجتمع اليمني شهد في السنوات الأخيرة تحولًا إيجابيًا تدريجيًا في نظرته لأطفال داون، مع ازدياد الوعي والتقبّل، وإنشاء مراكز متخصصة لتمكينهم من التعليم والتأهيل. بعضهم – كما تؤكد – أصبح قادرًا على الزواج وتكوين أسرة، وهي مؤشرات على أن الدمج يمكن أن يثمر نتائج ملموسة حين تتوافر الإرادة والبيئة الداعمة.


قصص ملهمة


- عبد الواحد.. من الانطواء إلى المسرح


عندما التحق عبد الواحد غراب بجمعية رعاية وتأهيل أطفال متلازمة داون في محافظة لحج، كان في الثامنة من عمره، طفلًا خجولًا ومنطويًا، يخاف الناس ولا يشارك في أي نشاط. لكن تلك البداية البسيطة تحوّلت بمرور الوقت إلى رحلة تحوّل مذهلة، بفضل دعم المعلّمات وبرامج الدمج والتعليم المبكر.


قالت رئيسة الجمعية ماجدة النفيلي لمركز سوث24: "بدأت المعلمات بتعليمه أساسيات تمييز الألوان والعناية الذاتية والمهارات الحركية. كان الفضول بداخله يحفزه على التعلم، ومع الوقت بدأ يكتب ويرسم، ثم تطورت قدراته عامًا بعد عام".


اليوم، وبعد عقدٍ كامل من المثابرة، أصبح عبد الواحد مثالًا للتطور والاندماج. يشارك في المسرحيات الخاصة باليوم العالمي لذوي الإعاقة، ويمثل جمعيته في احتفالات رسمية على مستوى البلاد.




عبد الواحد لم ينل التعليم فقط، بل خاض رحلة إعادة اكتشاف الذات؛ فبرامج الدعم التي تلقاها من صندوق المعاقين بعدن ومن برامج الملك سلمان، جعلته قريبًا من القدرات الطبيعية لأقرانه.


- عزام.. حين انتصر الحب على نظرة المجتمع


من صنعاء، لم يكن عزام الكميم طفلًا عاديًا. كان نغمةً مختلفة في لحن الحياة، كما تصفه أسرته.


وُلد عزام محاطًا بالمحبة، لكن رحلته بدأت بالقلق والتساؤلات. تقول والدته إن الأسرة لم تعرف إصابته بمتلازمة داون إلا بعد عامين من ولادته، حين تأخر في المشي، وبدأ الأطباء يقدّمون تفسيرات متباينة: “ضمور في الدماغ، خلل في الغدد، أو تأخر طبيعي”. حتى جاءت الحقيقة التي غيّرت نظرتهم للحياة بأكملها.


قال والده لمركز سوث24: "تأثرنا كثيرًا في البداية، لكن مع الوقت أدركنا أن الله أهدانا سببًا جديدًا للحب".


تعلّمت الأسرة أن الاختلاف ليس عيبًا، بل طريقٌ آخر للفهم والوجود. ومع ذلك، لم يكن التعليم سهلاً. فقد تنقّل عزام بين خمس مدارس بحثًا عن بيئة تتقبله، حتى وجد في مركز سن رايز مكانًا يفهمه ويتيح له التعلم بطريقته الخاصة.


ورغم توقف عددٍ من المراكز بسبب الحرب وندرة الدعم الرسمي، لم يتوقف عزام عن النمو. اليوم، في العشرين من عمره. أما أسرته، فحلمها بسيط وعميق في آن واحد: أن يعيش بكرامة، ويعتمد على نفسه، وأن يجد في المجتمع مساحة لذكائه وموهبته. 




المراكز بين العجز والطموح


في ظل غياب سياسات داخلية واضحة تجاه ذوي الإعاقات الذهنية، تقف مراكز التأهيل في اليمن كجزرٍ صغيرة من الأمل وسط بحرٍ من الإهمال. فهي تعمل بجهود ذاتية ومساهمات متقطعة، وتحاول – بما تملكه من أدوات بسيطة – أن تمنح أطفال متلازمة داون حقهم في التعلم والحياة الطبيعية.


في صنعاء، يقدّم مركز "سن رايز" للتوحّد والإعاقة الذهنية نموذجًا لهذا الكفاح اليومي. قالت مديرة المركز مريم الأنسي لمركز سوث24: "أردنا في مركز سن رايز أن يكون العمل قائمًا على التكافل، نتقاسم المسؤولية مع المجتمع. شعارنا هو (يد بيد)".


يستقبل المركز حاليًا عدد من الأطفال المصابين بمتلازمة داون، ويقدّم لهم برامج متكاملة تشمل العلاج الوظيفي، وجلسات النطق والتخاطب، والتدريب على الاستقلال الذاتي مثل النظافة الشخصية وارتداء الملابس وآداب السلوك، إضافة إلى التعليم الأكاديمي حتى الصف الخامس الابتدائي.


لكن هذه الجهود تصطدم بعقبات متكررة. فالمركز يواجه غياب المناهج التعليمية المخصصة لهذه الفئة في اليمن، مما يجبر الكادر على تكييف المناهج العامة وإضافة أنشطة وألعاب تعليمية لجعل العملية أكثر تفاعلاً ومتعة.


وتضيف الأنسي أن جميع المعلّمين في المركز من خريجي علم النفس والتربية الخاصة، ويتلقون دورات تدريبية كل ثلاثة أشهر لتطوير مهاراتهم في التعامل مع الحالات المختلفة.


وتبرز الأنسي تحديًا آخر لا يقل أهمية، يتمثل في الاحتياجات الصحية الخاصة لأطفال داون، مثل الحساسية المفرطة وكبر اللسان وبعض مشكلات القلب والجلد، ما يجعل من النظافة والتعقيم المستمرين شرطًا أساسيًا لسلامتهم.


العوامل الاقتصادية 


لا يمكن فصل معاناة أطفال متلازمة داون في اليمن عن الواقع الاقتصادي المتهالك الذي يطال كل بيت وكل خدمة. فالفقر هنا لا يُنتج الحرمان فقط، بل يُعمّق الإعاقة ويجعلها أكثر قسوة. وفي بلدٍ يعيش فيه ملايين الناس على هامش الكفاف، تصبح فكرة الرعاية الخاصة أو التأهيل النفسي ترفًا بعيد المنال.


يؤكد الصحفي الاقتصادي وفيق صالح لمركز سوث24 أن الوضع الاقتصادي المنهار هو العامل الأكثر تأثيرًا في حرمان الأطفال ذوي متلازمة داون من حقوقهم.




وأضاف: "اليوم أكثر من 80% من السكان يعيشون تحت خط الفقر، وهذا يعني أن معظم الأسر بالكاد قادرة على تأمين احتياجاتها الأساسية، فكيف لها أن توفر تكاليف العلاج أو الجلسات التأهيلية أو التعليم الخاص لأطفال يحتاجون دعمًا مستمرًا."


معالجات مطلوبة


يشير وفيق صالح إلى أن ضعف الإنفاق الحكومي على قطاعات الحماية الاجتماعية والتعليم الدامج، إضافة إلى غياب سياسات مستقرة، فاقم من عزلة أطفال داون. ففي بلدان مستقرة، تتحمل الدولة جزءًا كبيرًا من تكاليف الرعاية والتأهيل، بينما في اليمن تُترك الأسر وحيدة أمام عبءٍ يفوق قدراتها، وغالبًا ما تضطر للتخلي عن حق طفلها في العلاج أو التعليم لأسباب مالية.


ويرى صالح أن معالجة الأزمة لا يمكن أن تتم عبر الحلول الجزئية، كفتح مركز هنا أو حملة توعوية هناك، بل تبدأ من إصلاحات اقتصادية أوسع تستعيد الحد الأدنى من الاستقرار وتعيد توجيه الدعم نحو الفئات الأضعف.


من جانبه، يلفت الناشط في مجال حقوق ذوي الإعاقة عبدالله بنيان إلى إن غياب السياسات المستدامة يجعل المراكز المختصة بأطفال داون تعمل بمنطق “الاستمرارية بالصدفة”، إذ تعتمد على منح خارجية أو تبرعات موسمية لا تضمن التشغيل ولا التطوير. 


وأضاف لمركز سوث24 أن ضعف الموازنات الحكومية وتوقف قنوات التمويل المحلية خلقا فجوة مالية تهدد بإغلاق عشرات المراكز التي تمثل شريان الأمل للأطفال ذوي متلازمة داون.


ويرى بنيان أن تجاوز هذا الواقع يتطلب تحولًا مؤسسيًا شاملًا عبر تبني استراتيجية وطنية لحقوق ذوي الإعاقة وأطفال داون تضع أسسًا واضحة للتمويل المستدام، وتُلزم الوزارات المعنية بتخصيص موازنات سنوية ضمن الخطة العامة للدولة.


كما يدعو إلى إنشاء وحدة حكومية متخصصة تُعنى بمتابعة المراكز التأهيلية وتقديم الدعم الفني والمالي اللازم لها، إلى جانب إطلاق برامج تدريب وتأهيل مستمرة للعاملين والمعلمين لتحسين جودة الخدمات المقدمة للأطفال.




أظهرت المداخلات التي قدّمها المختصون أن التحدي أمام أطفال داون في اليمن لا يكمن فقط في وعي المجتمع، بل في غياب السياسة العامة التي تضمن الدمج والرعاية كحق لا كمنّة. 


فالوصمة التي تبدأ من الأسرة تتضخم بغياب المؤسسات، والمبادرات التي تولد من رحم الأمل تموت مع أول عجزٍ في التمويل، فيما تتحول المراكز إلى خطوط دفاع فردية في غياب الدولة.


ورغم ذلك، تبقى قصص مثل عبد الواحد وعزام بمثابة شواهد حيّة على أن الإرادة الإنسانية قادرة على تعويض عجز السياسات. وهو ما يتطلب إيلاء مزيد من الاهتمام لهذه الشريحة، واستغلال المناسبات مثل اليوم العالمي لأطفال داون (21 مارس) للتذكير المستمر بأهمية إدماجهم في الحياة الطبيعية.


- فاطمة العنسي

صحفية مستقلة مهتمة بالشأن الاجتماعي والإنساني

- سارة نويجع

إعلامية وناشطة اجتماعية مهتمة بقضايا المرأة والشباب


يأتي هذا التقرير ضمن مشروع ممول من "صندوق العمل العاجل" (Urgent Action Fund)، بهدف تسليط الضوء على القضايا المناخية والبيئية وقضايا المرأة وذوي الإعاقة.

شارك
اشترك في القائمة البريدية

اقرأ أيضا