التقارير الخاصة

التراث والرزق تحت يدٍ واحدة: حكاية نساء لحج الحرفيات

تصميم: مركز سوث24 (بواسطة الذكاء الاصطناعي)

آخر تحديث في: 01-07-2025 الساعة 11 مساءً بتوقيت عدن

مركز سوث24 | خديجة الجسري، أنسام عبد الله


في جمعية الصم والبكم في مدينة الحوطة بمحافظة لحج، تجلس أشجان عبدالله سالم إلى جانب نافذتها، تتلمس خيوط الصوف بعينين أنهكهما الزمن. الصمت يحيط بها، ليس كرمزٍ للعجز، بل كمساحة لخلقٍ صامت، تعيد من خلالها صياغة العالم بلغتها الخاصة.


 وُلدت أشجان صمّاء وبكماء، لكنها لم تكن يومًا بلا صوت. كانت أناملها تتحدث، وكانت الحياكة لغتها الأوضح، التي عبرت بها عن ذاتها، واحتفظت فيها بمكانتها في مجتمع غالبًا ما يتجاهل المختلفين.


بدأت رحلتها منذ الطفولة، حين كانت تراقب والدتها تنسج الصوف، لتتحول بعد ذلك إلى عضو في جمعية الصم والبكم في لحج. هناك لم تجد فقط أدوات الحياكة، بل وجدت انتماءً. المكان تحوّل إلى مساحة إبداع حقيقية، يتماهى فيها الجمال بالصمت، والعمل بالأمل.



أشجان عبد الله، حرفية التطريز بالصوف وهي تعمل في مشغلها الخاص بجمعية الصم والبكم في مدينة الحوطة بمحافظة لحج، 20 يونيو 2025 (مركز سوث24)


لكن المسار لم يكن ناعمًا كالصوف. تضاعفت أسعار الخامات، وأصبح الوصول إلى السوق أقرب إلى المغامرة. تصنع أشجان الآن مفارش صغيرة وحقائب هواتف، ترضي أذواق الجيل الجديد، لكنها تكافح من أجل تسويقها. "ما أتقاضاه لا يغطي حتى تكلفة الخيوط"، تنقل لنا شقيقتها بلغة الإشارة.


في حديثها لمركز سوث24، تؤكد أشجان أن ما تقوم به ليس مجرد صنعة، بل مسؤولية ثقافية: “أحافظ على هوية لحج من خلال ما أحيكه.” ورغم التغيرات في الذوق العام، ترى أن الشباب أصبحوا أكثر انفتاحًا على الحرف التراثية الحديثة، شرط أن تُقدَّم في قالب جذاب.


زار هذه الجمعية العديد من السياسيين والمسؤولين في المحافظة خلال السنوات السابقة، لكن لم تكن تلك الزيارات سوى صورة عابرة في ذاكرة مشبعة بالوعود. لم تعقبها اتفاقيات ولا دعم مادي. واليوم ، لا تحلم أشجان ورفيقاتها سوى ببطارية كهربائية تُنير لها مساحة العمل، بعدما بدأ بصرها هو الآخر يتلاشى.



جمعية الصم والبكم في مدينة الحوطة بمحافظة لحج، 20 يونيو 2025 (مركز سوث24)


الحرف والتراث


ليست الحرف اليدوية في لحج مجرد نشاط اقتصادي هامشي، بل هي شيفرة ثقافية تختزن ذاكرة المكان والناس. بين أيدي النساء، تمرر هذه الحرف من جيل إلى آخر. كل عقدة صوف، كل قطعة مطرزة، تحكي شيئًا من تاريخ الجنوب، من ألوانه، من مآسيه، ومن حلمه في أن يبقى حاضرًا رغم التجاهل.


لطالما كانت المرأة اللحجية حارسة لهذا التراث. من دون مؤسسات ثقافية فاعلة، ومن دون ميزانيات، حملت النساء عبء الحفاظ على الصناعات التقليدية. عبر المشافهة والتجربة اليومية، تُورَّث المهارات، وتُطوّع الأدوات القديمة في سياقات جديدة. ليس الأمر شغفًا فقط، بل ضرورة وجودية في مجتمع يُهدد النسيانُ فيه كل ما هو أصيل.


لويزا اللوزي، رئيسة اتحاد المهنيين والحرفيين في محافظة لحج، تصف هذه الحرف بأنها "ليست أدوات إنتاج فقط، بل تعبير صادق عن ثقافة وهوية الجنوب"، مؤكدة في حديثها لمركز سوث24 أن هذا التراث يتجاوز حدود الحرفة إلى كونه شكلًا من أشكال المقاومة الثقافية. فهو يمنح المرأة موطئ قدم في مجتمع يهمشها، ويسمح للهوية الجنوبية بأن تُترجم إلى شيء ملموس، يُرى ويُلمس ويُباع ويُقتنى.


ولا يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة لمدير مكتب الثقافة في لحج، باسل فيصل علوي، الذي يشير إلى أن الحرف التقليدية "تمثل موروثًا يجب الحفاظ عليه، ولو في الحد الأدنى"، خاصة في ظل تغير أنماط الحياة بفعل التقنية الحديثة. هو يرى أن ما تبقى من هذه الحرف بدأ يأخذ طابعًا تراثيًا فقط، يُعرض في المهرجانات والفعاليات، لا في الحياة اليومية. ما يُثير تساؤلات حول مستقبل هذا النوع من المعرفة العملية، حين يصبح بلا وظيفة سوى التذكير بما كان.



لكن المسألة ليست نوستالجيا خالصة. إذ إن كثيرًا من الحرفيات، كما تشير لويزا، لا يتعاملن مع هذه المهارات بوصفها تاريخًا فقط، بل باعتبارها وسيلة حالية للتعبير الاقتصادي والثقافي في آنٍ واحد. فبينما تُنسج القطع بطرق تقليدية، تُضاف إليها عناصر جديدة تستجيب لطلب السوق، في محاولة لتجديد المعنى، لا استنساخه.


ومع تقلص فرص التعليم والعمل مع كل عام يمرّ، تجد النساء أنفسهن مدفوعات إلى هامش الاقتصاد، يحملن عبء البقاء بأدوات يدوية بسيطة وموهبة موروثة.


علياء الرشيدي، إحدى الحرفيات المخضرمات، تلخص هذه المعادلة المعقدة. تعلمت صناعة المشاجب، هي مصنوعات تستخدم لتعليق الملابس، في طفولتها على يد والدتها، في منزل متواضع يحتضن ثماني بنات. والدها، العاجز عن دفع تكاليف التعليم الجامعي، لم يرَ أمامه سوى خيار الزواج المبكر كحل "اقتصادي" لأعباء الأسرة.



علياء الرشيدي حرفية صناعة (المشاجب) في مشغلها الخاص بمنزلها في مدينة الحوطة بمحافظة لحج، 29 يونيو 2025 (مركز سوث24)


قالت علياء لمركز سوث24: "لم تكن هذه الحرفة مجرد مهارة، كانت مخرجًا من واقع ضيق، ووسيلتنا الوحيدة للعيش بعد الزواج".


تتحدث بصوت هادئ، لكن خلف الكلمات يقف تاريخ طويل من الكفاح. فالنساء اللواتي تزوجن مبكرًا وجدن أنفسهن مسؤولات عن أسر، لكن بلا مؤهلات أو وظائف. كانت الخيوط والإبر أدوات استقلال رمزية، تمنح شيئًا من الكرامة في مجتمع لا يمنح النساء الكثير.


تؤكد لويزا اللوزي أن "الحرف تُمكّن النساء فعليًا، لكنها تظل محاطة بسياج من العقبات"، أهمها غياب التمويل والدعم المؤسسي. فالتمكين هنا ليس مشروعًا تنموياً بتمويل خارجي، بل مبادرة فردية تنشأ من رحم الندرة.


رغم ذلك، فإن كثيرًا من النساء استطعن عبر هذه الحرف تأمين الحد الأدنى من الدخل، بل وتكوين شبكات محلية للتسويق والتعاون. في البيوت، في المعارض، في الصفحات البسيطة على فيسبوك، يتحرك هذا الاقتصاد النسوي بهدوء، بعيدًا عن عدسات الإعلام وخطط التنمية الفوقية.



أشجان عبد الله، حرفية التطريز بالصوف وهي تعمل في مشغلها الخاص بجمعية الصم والبكم في مدينة الحوطة بمحافظة لحج، 20 يونيو 2025 (مركز سوث24)


الهشاشة المركّبة


في لحج، لا تُقاس هشاشة المرأة الحرفية فقط بضعف دخلها أو غياب التأمين الاجتماعي، بل أيضًا بمناخ يتغير بسرعة ونظام لا يتغير على الإطلاق. فالبيئة الطبيعية التي كانت يومًا ما مصدرًا للمواد الخام، أصبحت اليوم عبئًا آخر يُضاف إلى قائمة التحديات اليومية.


علياء الرشيدي، التي احترفت صناعة "المشاجب"، وتعتمد على منتجات طبيعية من أشجار النخيل، تشهد على هذا التحول البيئي المؤلم. وقالت لمركز سوث24 "كنا نشتري حزمة سعف النخيل بخمسة آلاف ريال يمني، الآن تُباع بعشرين ألفًا، هذا إن وجدناها أصلًا".


تصحرٌ متسارع، جفافٌ ، وارتفاعٌ في درجات الحرارة باتت معه المناطق الزراعية تتعرض للانحسار، والمواد الأولية تتحول إلى سلع نادرة. الحرفيون الذين يعتمدون على الطبيعة كمخزن مفتوح باتوا عاجزين عن الوصول إلى مواردهم، ليس فقط لغلائها، بل لأن المناخ ذاته بدأ يسحب البساط من تحت أقدامهم.


ولعل ما يزيد هذه المعاناة تعقيدًا هو غياب الكهرباء المستمر. في ظل صيف لحجي لاهب، تصبح الصنعة والجلوس لساعات أمام الخيوط ضربًا من التعذيب الجسدي. تقول علياء إن "انقطاع الكهرباء لا يوقف الإنتاج فقط، بل يخفض الجودة"، ما يعني خسارة مزدوجة: صحية واقتصادية.



علياء الرشيدي حرفية صناعة (المشاجب) في مشغلها الخاص بمنزلها في مدينة الحوطة بمحافظة لحج، 29 يونيو 2025 (مركز سوث24)


وإذا كان المناخ لا يرحم، فإن البيروقراطية أسوأ. الحرفيون لا يحصلون على أي نوع من التسهيلات أو الإعفاءات. لا تمويل منخفض الفائدة، ولا آليات دعم مدروسة، ولا حتى وجود حقيقي للمؤسسات الثقافية في الريف. 


لويزا اللوزي، تُحمّل غياب الدعم المالي المنهجي مسؤولية ما تصفه بـ "انكماش قطاع الحرف اليدوية"، مشيرة إلى أن عدم توفر قروض مناسبة يُجبر النساء على التوقف أو الوقوع تحت استغلال تجار المواد الخام.


وتضيف أن هذا الانكماش لا يهدد فقط الأفراد، بل يُهدد تنوع الإنتاج المحلي، ويفتح الباب أمام احتكار السوق من قبل فئات محدودة. ما يعني في النهاية تفريغ الحرفة من مضمونها التراثي، وتحويلها إلى سلعة تجارية بلا روح.


كيف نُبقي الحرف حيّة؟


في ظل هذا الواقع القاسي، لا يكفي الحديث عن أهمية الحرف اليدوية دون الانتقال إلى سؤال أكثر إلحاحًا: ما الذي يمكن فعله فعليًا لإنقاذ هذا التراث من الاختفاء؟ الإجابات موجودة، لكنها موزّعة على ألسنة الحرفيات والمختصين، وغائبة عن أجندات المؤسسات الرسمية.


فتحية أرشد، رئيسة جمعية تمكين المرأة الريفية في لحج، تلخّص معادلة البقاء ببساطة: "نحتاج إلى تدريب، تمويل، وتسويق". لكن خلف هذه الكلمات البسيطة تقف منظومة من العوائق والإمكانيات. فرفع القدرات التقنية لدى النساء في مجال الحرف لم يعد خيارًا إضافيًا، بل ضرورة للبقاء في سوق أصبح تنافسيًا، حتى في أقصى الريف.


التدريب المطلوب لا يقتصر على المهارات التقليدية، بل يجب أن يشمل تصميم المنتجات بما يتناسب مع ذوق السوق، والتعامل مع الأدوات الحديثة، والتسويق عبر الإنترنت، الذي بات منفذًا حيويًا في ظل غياب قنوات التسويق المحلي. وتشدّد فتحية على أهمية "إدخال التقنيات التي تخفف الجهد وتزيد من جودة المنتج، خصوصًا مع تقدم سن كثير من الحرفيات."



أشجان عبد الله، حرفية التطريز بالصوف وهي تعمل في مشغلها الخاص بجمعية الصم والبكم في مدينة الحوطة بمحافظة لحج، 20 يونيو 2025 (مركز سوث24)


لكن التكنولوجيا وحدها لا تكفي. فتوفير المواد الخام بأسعار معقولة ومن مصادر مستدامة، شرطٌ لازم لأي حديث عن جدوى اقتصادية. يقترح باسل فيصل علوي، مدير مكتب الثقافة، ربط الحرف اليدوية بمراكز الدعم المحلية أو المنظمات الدولية التي يمكنها توفير هذه المواد بأسعار مدعومة. وهو يقترح إقامة دورات تدريبية متخصصة تستهدف رفع كفاءة الحرفيين وربطهم بسوق السياحة الداخلية والخارجية.


ولأن السوق لا ينتظر، فإن واحدة من أكثر التوصيات إلحاحًا تتمثل في إنشاء جمعيات تعاونية للحرفيات، لا كمجرد كيانات شكلية، بل كوحدات إنتاج وتبادل وتطوير. هذه الجمعيات يمكنها أن توفر المواد بالجملة، تنظم عمليات البيع، وتنوب عن النساء في حضور المعارض والتسويق الإلكتروني.


في السياق نفسه، ترى لويزا اللوزي أن غياب التمويل أحد أكبر التحديات البنيوية، وتقترح إنشاء صناديق صغيرة للتمويل متناهي الصغر، تُمنح بشروط ميسرة للنساء المنتِجات. "لا نحتاج إلى صدقات"، تقول، "نحتاج إلى شراكة ذكية تحفظ كرامتنا وتضمن استمرارنا".


أما الحل الجذري فيبقى في ربط الحرف اليدوية بالسياحة الثقافية. فتسويق هذه المنتجات على أنها جزء من تجربة الزائر، وليس فقط سلعة، يفتح أفقًا اقتصاديًا جديدًا ويعزز من مكانة التراث بوصفه قيمة ثقافية قابلة للحياة. 


الحلول كثيرة، لكنها تحتاج إلى إرادة مؤسسية، واعتراف رسمي بأن الحرفة ليست فقط تراثًا ثقافيًا، بل قطاع إنتاجي قائم بذاته. وعندما يُمنح هذا القطاع ما يستحقه من تنظيم ودعم وتمويل، فلن تبقى الحرف اليدوية مجرد ذكرى، بل مشروعًا نابضًا بالحياة والكرامة.


- خديجة الجسري

صحفية مستقلة وناشطة في مجال حقوق المرأة

- أنسام عبد الله

صحفية مستقلة تركز على شؤون المرأة والتراث والبيئة 


يأتي هذا التقرير ضمن مشروع ممول من "صندوق العمل العاجل" (Urgent Action Fund)، بهدف تسليط الضوء على القضايا المناخية والبيئية وقضايا المرأة وذوي الإعاقة.



شارك
اشترك في القائمة البريدية

اقرأ أيضا