عربي

اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان: من الذي انتصر؟

المدفعية الإسرائيلية تطلق نيرانها نحو لبنان، 15 يناير 2024. الصورة بعدسة يوناتان سيندل/Flash90.

02-12-2024 الساعة 12 مساءً بتوقيت عدن

language-symbol
"يتضح أن الحرب الأخيرة بين حزب الله وإسرائيل لم تحقق انتصارًا حاسمًا لأي من الطرفين، بل كرّست منطق الردع المتبادل. ومع ذلك، يُتوقع أن يكون لهذا الاتفاق تداعيات.."

سوث24 | محمد فوزي


بعد مداولات ومشاورات مكثفة بين الجانبين اللبناني والإسرائيلي بوساطة أمريكية، قادها بشكل رئيسي كل من المبعوث الأمريكي إلى لبنان عاموس هوكشتاين، والسفيرة الأمريكية لدى لبنان ليزا جونسون، تكللت هذه الجهود بإنجاز اتفاق لوقف إطلاق النار بين حزب الله اللبناني وإسرائيل. سعت من خلاله إدارة الرئيس جو بايدن إلى تحقيق أي منجز على مستوى السياسة الخارجية قبل مغادرة بايدن للبيت الأبيض في يناير المقبل. بالنظر إلى هذا الاتفاق وما تبعه من تفاعلات وتطورات، نجد أنّ الاتفاق يغلب عليه حتى اللحظة "الطابع الاستكشافي"، بمعنى أنه ليس إقرارًا نهائيًا فعليًا بانتهاء الحرب على هذه الجبهة، كما أنّه سيكون له ما بعده سواءً على مستوى الداخل اللبناني والإسرائيلي، أو على مستوى التصعيد الجاري في المنطقة.


أولًا- حيثيات الاتفاق وبنوده


طغى على مشهد صياغة الاتفاق بين الجانبين اللبناني والإسرائيلي حالة من التعتيم والتكتم، لكن العديد من وسائل الإعلام العبرية نشرت ما قالت إنه النص النهائي للاتفاق، وحمل الاتفاق عنوان "إعلان اتفاق وقف الأعمال العدائية والالتزامات ذات الصلة بشأن تعزيز الترتيبات الأمنية وتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701"، وحمل الاتفاق تاريخ 26 نوفمبر 2024. وقد ضم الاتفاق 13 بندًا رئيسيًا توزعت في النقاط التالية:


1. التأكيد على مرجعية القرار الأممي 1701: أكد الاتفاق في بنوده على مرجعية القرار الأممي 1701 الخاص بلبنان، والذي تم توقيعه عقب حرب 2006. ويشير نص الاتفاق إلى التزام الجانبين بصورة كاملة بتنفيذ هذا القرار ووقف الأعمال العدائية عبر الرجوع إلى الخط الأزرق.


2. منع الأعمال التصعيدية بين الجانبين: نص الاتفاق على أن حكومة لبنان ستمنع "حزب الله" وجميع الجماعات المسلحة الأخرى من تنفيذ أي عمليات ضد إسرائيل، كما لن تنفذ إسرائيل عمليات عسكرية هجومية ضد أهداف لبنانية، بما في ذلك الأهداف المدنية والعسكرية أو أهداف الدولة الأخرى، في الأراضي اللبنانية برًا أو جوًا أو بحرًا.


3. حق الدفاع عن النفس: أقر الاتفاق حق الطرفين في الدفاع عن النفس ضد أي أعمال عدائية يرتكبها الطرف الآخر. كما نص على أن القوات العسكرية والأمنية الرسمية اللبنانية وبنيتها التحتية وأسلحتها ستكون القوات الوحيدة المسموح لها بالوجود جنوب الليطاني، من دون المساس بقوات الطوارئ الدولية "اليونيفيل".


4. إشراف الحكومة اللبنانية على واردات الأسلحة: اعتبر الاتفاق أنّ الحكومة اللبنانية ستكون مسؤولة عن تنظيم مسألة السلاح، من خلال النص على أن أي عمليات بيع أو توريد للأسلحة والأعتدة ذات الصلة إلى لبنان ستخضع لتنظيم ومراقبة الحكومة اللبنانية.


5. ضبط مسألة التسليح في لبنان: ركز الاتفاق على مسألة احتكار الدولة اللبنانية للسلاح، من خلال النص على ضرورة مراقبة ومنع أي دخول غير مصرح به للأسلحة والمعدات ذات الصلة إلى لبنان وعبره، بما في ذلك عبر المعابر الحدودية، ومنع الإنتاج غير المصرح به للأسلحة داخل لبنان، إضافة إلى تفكيك جميع المنشآت غير المصرح بها التي تشارك في إنتاج السلاح جنوب الليطاني. كما نص الاتفاق على دعم نشر آلاف الجنود من الجيش اللبناني جنوب الليطاني.


6. آليات جديدة للإشراف على تنفيذ الاتفاق: نص الاتفاق على عمل الولايات المتحدة وفرنسا ضمن اللجنة التقنية والعسكرية المسؤولة عن الإشراف على تنفيذ الاتفاق. وأشار إلى أن هذه الآلية ستكون ثلاثية الأطراف، تستضيفها قوات الطوارئ الدولية، وستكون تحت رئاسة أمريكا بمشاركة فرنسا، مع مسؤوليات تشمل مراقبة التزامات هذا الاتفاق.


7. الانسحاب الإسرائيلي من مناطق الجنوب: نص الاتفاق على انسحاب إسرائيل تدريجيًا من المناطق التي دخلتها جنوب لبنان، مع بدء تنفيذ وقف الأعمال العدائية. كما نص على انتشار الجيش اللبناني جنوب نهر الليطاني، على أن تُنفذ الخطة خلال 60 يومًا.


ثانياً- ملامح المشهد ما بعد الاتفاق


بالنظر إلى طبيعة تعاطي الجانبين، سواء الإسرائيلي أو اللبناني، خصوصًا من جانب حزب الله، نجد أن كلا الطرفين تعامل مع الاتفاق الأخير المُبرم في إطار ما يُطلق عليه "الدعاية السياسية"، حيث روّج كل طرف لرؤيته واعتبر الاتفاق انتصارًا له. وفي هذا السياق، برزت عدة ملامح رئيسية، منها:


1. الطابع الاستكشافي للاتفاق: غلب على تعامل الطرفين مع الاتفاق طابع "الاستكشاف الحذر"، ما انعكس في عدة مؤشرات:

• إعلان حزب الله في بيان رسمي أن عناصره "سيبقون على أتم الجهوزية للتعامل مع أطماع العدو الإسرائيلي واعتداءاته"، مع مراقبة تحركات القوات الإسرائيلية وانسحاباتها.

• استمرار تمركز بعض الوحدات الإسرائيلية في مناطق جنوب لبنان، بما يعكس عدم الثقة الكاملة في استدامة الاتفاق.

• تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التي هدد فيها بالتصعيد إذا انتهك حزب الله بنود الاتفاق.


2. عودة المدنيين إلى جنوب لبنان: شهدت المناطق الجنوبية عودة واسعة للأهالي بعد بدء تنفيذ الاتفاق، حيث أعلن ناصر ياسين، منسق لجنة الطوارئ الحكومية في لبنان، أن أكثر من 88% من السكان عادوا إلى بلداتهم. وأكد أن هذا يعد انتصارًا كبيرًا للدولة اللبنانية، إلى جانب كونه خطوة نحو إعادة الإعمار وتعزيز دور القوى الأمنية في الحفاظ على الاستقرار.


3. الانتهاكات الإسرائيلية للاتفاق: سجلت تقارير حقوقية ودولية عدة انتهاكات إسرائيلية لبنود الاتفاق، من أبرزها تنفيذ 32 خرقا في مناطق جنوب لبنان، واستهداف مواقع حدودية وأخرى في العمق اللبناني. كما تأخرت إسرائيل في سحب قواتها إلى ما وراء الخط الأزرق. ويُرجح أن هذه الانتهاكات تهدف إما إلى استفزاز الجانب اللبناني أو ممارسة ضغوط لتحقيق مكاسب إضافية خلال فترة الانسحاب التدريجي. وهذا يخدم حسابات "نتنياهو" القائمة على إطالة أمد الحرب وكذا حسابات اليمين الإسرائيلي المتطرف.


4. تشكيك إسرائيلي في "النصر": أظهرت استطلاعات الرأي داخل إسرائيل شعورًا عامًا بعدم تحقيق النصر على حزب الله. ووفقًا لاستطلاع بثته القناة 13 الإسرائيلية، فإن 60.8% من الإسرائيليين يعتقدون أن الحرب لم تحقق أهدافها، بينما أبدى 25.8% فقط ثقتهم في نتائج الحرب. يعكس هذا التشكيك تأثير الحملة العسكرية الطويلة على معنويات الداخل الإسرائيلي، خصوصًا مع استمرار قدرة حزب الله على الصمود رغم الخسائر الكبيرة التي تعرض لها على مستوى قيادات الصف الأول.


5. عدم عودة سكان المستوطنات الإسرائيلية الشمالية: في مقابل عودة النازحين اللبنانيين، أعرب سكان المستوطنات الإسرائيلية الشمالية عن مخاوفهم من العودة إلى منازلهم، مشيرين إلى غياب الضمانات الأمنية وإلى الدمار الكبير الذي لحق بمنازلهم. وذكرت تقارير عبرية أن عملية إعادة إعمار هذه المناطق ستستغرق عامين على الأقل، ما يعكس ضعف ثقة الإسرائيليين في فعالية الاتفاق ومستقبل الاستقرار الأمني.


6. تأكيد حزب الله التوافق مع الجيش اللبناني: أكد حزب الله في تصريحات قياداته، وعلى رأسهم نعيم قاسم، أهمية التنسيق مع الجيش اللبناني لتنفيذ الاتفاق، مشيرًا إلى أن الجيش اللبناني شريك وطني أساسي في الحفاظ على السيادة. يأتي هذا التصريح في إطار مساعي الحزب لتهدئة المخاوف الداخلية بشأن دوره العسكري، وتعزيز صورته كمدافع عن لبنان ضمن الأطر الوطنية.


7. مشاركة فرنسا في تنفيذ الاتفاق: رغم التوترات بين باريس وتل أبيب، أُنجز اتفاق يقضي بمشاركة فرنسا في آليات تنفيذ القرار 1701 ضمن اللجنة الثلاثية. وقد جاءت هذه المشاركة بعد تنازل إسرائيل عن موقفها الرافض لدور فرنسي مقابل تخفيف باريس من حدة موقفها بشأن محاكمة بنيامين نتنياهو في حال زيارته الأراضي الفرنسية. واعتبر وزير الداخليّة الفرنسيّ أنّ هناك العديد من الأشخاص يتمتّعون بحصانة، ولن يتّم اعتقاله، في إشارة واضحة لرئيس الوزراء الإسرائيلي.


ثالثاً- التداعيات المحتملة


يحمل اتفاق وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل العديد من التداعيات المهمة، وذلك على أكثر من مستوى، يمكن تناولها في ضوء العوامل التالية:


1- تلاشي مبدأ وحدة الساحات: أحد الارتدادات الرئيسية للاتفاق الأخير تتمثل في مساهمته فعلياً في تلاشي مبدأ "وحدة الساحات"، وذلك لأكثر من اعتبار، أولها تسكين الجبهة اللبنانية (وهي الجبهة الأهم في هذا الصدد)، وثانيها أن هذا الاتفاق قد يدفع باتجاه تراجع بعض الساحات كاليمن وسوريا والعراق عن المشاركة في التصعيد الجاري ضد إسرائيل، وثالثها أن الاتفاق يدفع عملياً باتجاه تراجع الضغط على "نتنياهو" بخصوص الجبهة الشمالية، والتركيز بشكل أكبر على جبهة الجنوب في قطاع غزة. 


2- مستقبل غامض لحزب الله: على المستوى الداخلي اللبناني سوف يكون "اليوم التالي" عقب انتهاء هذه الحرب محملاً بالعديد من التداعيات والعوامل الضاغطة خصوصاً بالنسبة لحزب الله، وذلك على أكثر من مستوى. أولها يتمثل في الخسائر الكبيرة التي مُني بها الحزب على المستوى العسكري، فضلاً عن خسارته لمعظم قادة الصف الأول بما فيهم الأمين العام السابق حسن نصر الله بما يحمله من مكانة رمزية وكاريزمية كبيرة لدى الحزب ولدى بيئته الحاضنة. وثانيها أن الحزب سوف يكون عليه مسؤوليات اقتصادية اجتماعية في مسائل إعادة تهيئة البيئة الحاضنة الخاصة به، وثالثها أن الحزب سيواجه ضغوطاً كبيرة على مستوى إنجاز بعض الاستحقاقات المعطلة والتي كان طرفاً فيها عبر ذراعه السياسي، وعلى رأسها انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية.


لكن هذه العوامل لا تعني الذهاب إلى سيناريو سقوط أو تفكك الحزب، لأكثر من عامل، منها أن الحزب لديه بيئة حاضنة شعبية قوية، وكذا لدى الحزب أوجه حضور متعددة  في لبنان بما في ذلك حضوره السياسي وسيطرته على شبكات الرعاية الاجتماعية. كذلك فإن الحزب تاريخياً لم يتأثر بشكل كبير بفقدان قياداته، خصوصاً في ضوء عمل أجهزته الداخلية على إعداد  كوادر قيادية جديدة، وكذا تنامي عمليات الاستقطاب. فضلاً عن الأسابيع الأخيرة عكست أن الجهاز الأمني والعسكري للحزب لا يزال حاضراً وفاعلاً رغم الضربات الموجعة التي تلقاها.


3- إرجاء وقف إطلاق النار في غزة: يبدو أن اتفاق وقف إطلاق النار في الجبهة اللبنانية لن يكون له انعكاسات مباشرة على جبهة غزة، والتي يبدو أنه تم إرجاء حسمها إلى ما بعد وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وذلك لأكثر من اعتبار. أولها أن "ترامب" سوف يسعى إلى إنجاز صفقة إقليمية كبرى على قاعدة إنهاء هذه الحرب، وثانيها أن "نتنياهو" مصر على إطالة أمد الحرب لحين فرض أمر واقع جديد في غزة، وثالثها تبني الفصائل الفلسطينية في غزة لأنماط من المواجهات تقوم على فكرة الاستنزاف وهو تكتيك يدفع باتجاه إطالة أمد هذه الحرب.


في الختام، يتضح أن الحرب الأخيرة بين حزب الله وإسرائيل لم تحقق انتصارًا حاسمًا لأي من الطرفين، بل كرّست منطق الردع المتبادل. ومع ذلك، يُتوقع أن يكون لهذا الاتفاق تداعيات، سواءً على الصعيد الداخلي في لبنان، خاصةً فيما يتعلق بترتيبات الأمن وانتخاب رئيس جديد، أو على الصعيد الإقليمي، خصوصاً فيما يتصل بتراجع أو اندثار فكرة ومبدأ "وحدة الساحات".


خبير مصري متخصص في شؤون الأمن الإقليمي


شارك
اشترك في القائمة البريدية

اقرأ أيضا