ملصق لرئيس المكتب السياسي الراحل لحركة حماس إسماعيل هنية في ساحة فلسطين بطهران. الصورة: وكالة الصحافة الفرنسية/جيتي إيماجيز
18-08-2024 الساعة 4 مساءً بتوقيت عدن
"حتى لحظة كتابة هذه الورقة، لم يتجاوز رد الفعل الإيراني حدود الحشد والتجييش والتعبئة الإعلامية والدعائية، مما يطرح مجموعة من الفرضيات الرئيسية، بعضها يرتبط بوجود حالة من الانقسام داخل دوائر صنع القرار الإيرانية."
مركز سوث24 | محمد فوزي
كانت مسألة رد إيران والفصائل الموالية لها المحتمل على إسرائيل، في ظل التصعيد الذي حدث منذ 30 يوليو الماضي، في أعقاب اغتيال القيادي فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية لبيروت، وكذلك اغتيال إسماعيل هنية في طهران، الشغل الشاغل لكافة الأوساط الإقليمية والدولية خلال الآونة الأخيرة. ولكن، وحتى لحظة كتابة هذه الورقة، لم يتجاوز رد الفعل الإيراني حدود الحشد والتجييش والتعبئة الإعلامية والدعائية، مما يطرح مجموعة من الفرضيات الرئيسية، بعضها يرتبط بوجود حالة من الانقسام داخل دوائر صنع القرار الإيرانية بخصوص جدوى ومصلحة التصعيد الشامل مع إسرائيل، وبعضها الآخر مرتبط بالحرب على غزة ومسار المفاوضات الجديدة التي بدأت في الدوحة في 15 أغسطس الجاري، على أن تستكمل في القاهرة خلال الأيام المقبلة.
ومع التسليم بالفرضيات السابقة، إلا أن كافة المؤشرات الحالية تشير إلى أن الرد الإيراني سيكون حتمياً، في ضوء سعي إيران إلى تثبيت قواعد الردع مع إسرائيل، مع احتمالية أن تظل مسألة "حدود هذا الرد الإيراني" قيد النظر بالنسبة لطهران، في ضوء التكلفة الكبيرة لسيناريو التصعيد الشامل. وفي هذا السياق، تحاول هذه الورقة الوقوف على الأسباب الرئيسية والمحددات التي دفعت إلى تأخر الرد الإيراني، إلى جانب مناقشة الأنماط المحتملة لهذا الرد.
أسباب تأخر الرد الإيراني
في الساعات الأولى من يوم 17 أغسطس 2024، نقلت صحيفة "نيويورك تايمز" عن مسؤولين أمريكيين وإسرائيليين وإيرانيين قولهم إن "إيران قررت تأجيل ردها الانتقامي على إسرائيل للسماح بمواصلة الجهود نحو وقف إطلاق النار في غزة"[1]. وقد تصاعدت في الأيام الأخيرة التسريبات التي تروج لهذه السردية. وفي هذا الإطار، يمكن التأكيد على فرضية "تأخر الرد الإيراني"، باعتبارنا نتحدث حالياً عن نحو 20 يوماً منذ استهداف إسماعيل هنية في قلب العاصمة طهران. ويمكن فهم الأسباب المتعلقة بتأخر عملية الرد الإيراني في ضوء الاعتبارات التالية:
1- الانقسام داخل دوائر صنع القرار الإيرانية: أشار تقرير لصحيفة التليجراف البريطانية إلى أن "هناك انقساماً داخل إيران بخصوص الرد على إسرائيل، وأن الرئيس الإيراني الجديد بزشكيان يخوض معركة ضد الحرس الثوري في محاولة لمنع حدوث حرب مع إسرائيل". ووفقاً للصحيفة، فإن "كبار جنرالات الحرس الثوري يصرون على توجيه ضربة مباشرة إلى تل أبيب وغيرها من المدن الإسرائيلية، مع التركيز على القواعد العسكرية لتجنب وقوع إصابات بين المدنيين، لكن الرئيس الإيراني اقترح استهداف قواعد إسرائيلية سرية في الدول المجاورة لإيران"[2].
هذه المؤشرات تحمل مجموعة من الدلالات المهمة. أولاً، هناك قناعة لدى الرئيس الإيراني الجديد بأن توجيه ضربة كبيرة لإسرائيل قد يدفع باتجاه حرب مفتوحة إيران في غنى عنها. ثانياً، ينطلق الرئيس الإيراني الجديد في مقاربته من حسابات مرتبطة بسعيه لحلحلة الملفات العالقة لإيران، وليس إضفاء المزيد من الأزمات خلال فترة رئاسته. ثالثاً، هناك دفع من المرشد الأعلى الإيراني وكبار القادة العسكريين الإيرانيين باتجاه توجيه ضربة كبيرة ضد إسرائيل. رابعاً، هناك شبه اتفاق على ضرورة الرد على اغتيال "هنية"، لكن الخلاف ينصب حول طبيعة وحدود هذا الرد.
2- تخوف إيران من تكلفة المواجهة الشاملة: على الرغم من التلويح الإيراني في أكثر من مناسبة بأن "كل الخيارات مطروحة للتعامل مع التصعيد الإسرائيلي، بما في ذلك الدخول في مواجهة مباشرة وحرب مفتوحة"، إلا أن المقاربة الإيرانية حتى اللحظة تميل إلى تجنب الدفع باتجاه حدوث هذا السيناريو، استناداً إلى مجموعة من التخوفات المرتبطة بتكلفة الحرب الشاملة بينها وبين تل أبيب. أولاً، تدرك إيران أن الدخول في حرب شاملة يعني عملياً استخدام أقصى قدراتها العسكرية والاستراتيجية، وهو خيار شديد التكلفة بالنسبة لها. ثانياً، قد يدفع سيناريو الحرب الشاملة باتجاه إفساد العديد من الترتيبات الإيرانية التي جرت مع بعض القوى الدولية. ثالثاً، قد يؤثر هذا السيناريو سلباً على الملف النووي الإيراني، سواء على مستوى إمكانية توجه واشنطن نحو تحويل الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن، أو على مستوى احتمالية إقدام إسرائيل على ضرب المنشآت النووية الإيرانية، وهي اعتبارات تضر بالمصلحة الاستراتيجية لإيران في هذا الملف، خاصةً وأن إيران اقتربت من الوصول إلى مرحلة امتلاك القدرة على إنتاج القنبلة النووية. فقد طورت إيران برنامجها النووي بشكل كبير، وزادت كمية اليورانيوم المخصب التي تمتلكها بدرجة تتجاوز 22 ضعف ما هو منصوص عليه في الاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه في 14 يوليو 2015.
3- الضغوط الأمريكية والغربية على طهران: أحد الاعتبارات الرئيسية التي ساهمت حتى اللحظة في تأخير وتأجيل الهجوم ورد الفعل الإيراني على إسرائيل، يتمثل في الضغوط الأمريكية الأوروبية الكبيرة على طهران بهذا الخصوص. ويمكن القول إن هذه الضغوط قد اتخذت أنماطاً متعددة، جمعت بين الطابعين العسكري والدبلوماسي السياسي. فعلى المستوى العسكري، أعلنت الولايات المتحدة عن حشد عسكري كبير في المنطقة تحسباً للهجوم الإيراني. من ذلك إعلان "البنتاغون" في 12 أغسطس 2024، عن إرسال غواصة صواريخ موجهة إلى الشرق الأوسط[3]، وتسريع وصول مجموعة حاملة طائرات هجومية إلى المنطقة. وفي مطلع أغسطس الجاري، أفادت تقارير[4] بأن الولايات المتحدة "قامت بنشر أكثر من 12 مدمرة وسفينة حربية بمياه الخليج والشرق الأوسط، تحسباً للرد الإيراني المحتمل على اغتيال إسماعيل هنية وفؤاد شكر". وعلى المستوى الدبلوماسي، مارست القوى الغربية ضغوطاً كبيرة على طهران. ففي 4 أغسطس 2024، أفادت صحيفة "وول ستريت جورنال" بأن الولايات المتحدة أرسلت تحذيرات شديدة لإيران عبر وسطاء من أن "شن ضربة كبيرة ضد إسرائيل سوف يتبعه رد فعل"[5]. أيضاً كان رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، والمستشار الألماني أولاف شولتز، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ضمن المساعي الدبلوماسية الأوروبية مع إيران، قد تواصلوا مع الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان [6]، لحض إيران على احتواء التصعيد، لكن بزشكيان أكد أن لبلاده "حق الرد" على أي هجوم يستهدفها.
ويبدو أن اعتماد المقاربة الأمريكية الغربية على الجمع بين العنصرين العسكري والدبلوماسي في إطار الضغط على إيران، جاء في ضوء مجموعة من الاعتبارات الرئيسية. أولاً، الإدارة الأمريكية حريصة منذ 7 أكتوبر 2023، على التلويح بالقوة والحشد العسكري، ليس من أجل الانخراط المباشر في التصعيد الإقليمي، وإنما للحيلولة دون ارتفاع وتيرة الحرب الإقليمية. ثانياً، هذا الحشد العسكري الكبير يضمن من جانب آخر ردع إسرائيل عن أي تحركات غير محسوبة بالمنطقة، والاكتفاء بدلاً من الانخراط المباشر بالاعتماد على العمليات المحدودة التي يتم تنفيذها من قبل الحلفاء الغربيين ضد بعض الأذرع الإيرانية، كما هو الحال مع الحوثيين. ثالثاً، الولايات المتحدة والدول الأوروبية خصوصاً، منشغلة حالياً بشكل كبير بالتطورات النوعية التي تشهدها الحرب الأوكرانية، وبالتالي ليس من مصلحتها تنامي وتيرة التصعيد في الشرق الأوسط.
4- الحسابات المرتبطة بحرب غزة: كان لافتاً في خطاب الرئيس الأمريكي جو بايدن في 13 أغسطس 2024، أنه ذكر أن "التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة قد يدفع إيران إلى الامتناع عن شن هجوم على إسرائيل"[7]. وبشكل عام، يبدو أن حسابات الضربة الإيرانية باتت مرتبطة بشكل كبير بمباحثات وقف إطلاق النار في غزة، وهي المباحثات التي استؤنفت في الدوحة في 15 أغسطس الجاري، على أن تُستكمل في القاهرة نهاية الأسبوع الجاري. وكان لافتاً في هذا السياق ما ذكرته تقارير من أن رئيس الوزراء القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني تواصل هاتفياً عقب انتهاء المباحثات مع القيادة الإيرانية، ودعاها إلى التروي في تنفيذ أي هجوم على إسرائيل، لأن "تقدماً لوحظ في سير المفاوضات"[8].
وهنا بعض الملاحظات الرئيسية: أولاً، هناك تخوف لدى إيران من أن يؤدي الرد المحتمل على إسرائيل إلى تعقيد مسار المباحثات. ثانياً، تحول الرد الإيراني مع تأخره من عامل ضاغط ومؤثر على مسار المباحثات، إلى عامل تابع لها ومرهون بنتائجها. ثالثاً، الولايات المتحدة باتت ترى ضرورة لإنجاح الجولة الحالية من المباحثات الخاصة بوقف إطلاق النار، من أجل تجنب الرد الإيراني وتجنب سيناريو التصعيد في المنطقة.
محددات وسيناريوهات الرد الإيراني
من خلال استقراء المشهد والسياقات الحالية الخاصة بأبعاد وحدود الرد الإيراني المحتمل ضد إسرائيل، يمكن القول بأن جملة الاعتبارات السابقة قد دفعت إلى "تأجيل الرد الإيراني على إسرائيل، وليس بالضرورة إلغاءه"، وذلك في ضوء بعض الاعتبارات الرئيسية. أولاً، عملية اغتيال إسرائيل لإسماعيل هنية في قلب العاصمة طهران، قد وضعت إيران في موقف حرج سواء أمام المجتمع الداخلي، خصوصاً بعد سيطرة الأصوليين المتشددين على البرلمان الإيراني في انتخابات مارس الماضي، أو أمام الفصائل الموالية لها في المنطقة. ثانياً، تسعى إيران إلى الحفاظ على قواعد الردع المتبادلة مع إسرائيل. ثالثاً، تسعى إيران من خلال هذا الرد إلى التأكيد على فاعلية قدراتها العسكرية، ليس بالضرورة لتكبيد إسرائيل خسائر كبيرة، ولكن على أقل تقدير لتأكيد القدرة على استهداف العمق الإسرائيلي. وفي ضوء هذه المحددات، يمكن رسم المعالم المحتملة للرد الإيراني والسيناريوهات الخاصة به، وذلك على النحو التالي:
1- استهداف العمق الإسرائيلي بشكل مباشر: من المرجح أن يتخذ الرد الإيراني نمط استهداف العمق الإسرائيلي بشكل مباشر، على غرار ما حدث في أبريل الماضي، مع ملاحظة أن الهجوم الذي حدث في أبريل كان ضئيلاً من حيث النتائج العسكرية، خصوصاً وأنه ركز على استهداف صحراء النقب. وبالتالي، قد تحرص إيران في الهجوم المحتمل القادم على استهداف بعض القواعد والمراكز العسكرية الإسرائيلية المهمة، فضلاً عن استهداف تل أبيب نفسها.
2- استهداف المصالح والحضور الإسرائيلي بالخارج: أحد الفرضيات المطروحة بخصوص الرد الإيراني المحتمل على إسرائيل يتمثل في احتمالية توجه إيران نحو استهداف الحضور الإسرائيلي في الخارج، سواء من خلال بعض البعثات الدبلوماسية، أو بعض التمركزات العسكرية الإسرائيلية في بعض البلدان. وقد دلل على وجود تقديرات بهذا الخصوص لدى الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، ما تم الإعلان عنه في 12 أغسطس 2024، عندما ذكرت هيئة البث العبرية[9] أن الجيش الإسرائيلي طلب من قواته في أذربيجان وجورجيا المغادرة على الفور، تخوفاً من هجوم محتمل لإيران.
3- نموذج "هجين" للتصعيد الإيراني: يظل السيناريو الأكثر ترجيحاً فيما يتعلق بالرد الإيراني هو اعتماد إيران على نموذج "هجين" في ردها على إسرائيل، يجمع بين الاستهداف المباشر للداخل الإسرائيلي وبين التصعيد عبر الوكلاء. بمعنى أن إيران قد تُقدم على استهداف محدود للداخل الإسرائيلي على غرار ما حدث في أبريل الماضي، مع تصعيد نوعي عبر الوكلاء، وخصوصاً من قبل حزب الله اللبناني، الذي لديه رؤية تقوم على ضرورة الرد على اغتيال القائد العسكري الأهم في الحزب فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية لبيروت.
وإجمالاً، يمكن القول إن ما حدث من تأجيل للرد الإيراني المحتمل على إسرائيل على وقع اغتيال إسماعيل هنية في طهران كان مرتبطاً إلى حد كبير بوجود انقسامات داخلية في إيران حول هذا الرد، وكذلك الضغوط الغربية الكبيرة، إلى جانب استئناف مباحثات وقف إطلاق النار في غزة. لكن هذه العوامل ساهمت على الأرجح في تأجيل الرد الإيراني وليس إلغائه، مما يعني أن ما يفصل المنطقة عن سيناريو "حافة الهاوية" يظل مرهوناً بمسارات مباحثات وقف إطلاق النار في غزة، وحدود وطبيعة هذا الرد الإيراني، وكيفية التعامل الإسرائيلي معه.
محمد فوزي
خبير مصري متخصص في شؤون الأمن الإقليمي
قبل 3 أشهر