منوعات

جمهورية سوجيه.. تأسست بمزحة بين حدود سويسرا وفرنسا

21-03-2020 الساعة 3 مساءً بتوقيت عدن

language-symbol

بي بي سي| نهضت جورجيت بيرتين بورشيه، رئيسة جمهورية سوجيه، لتقدم الشاي بنفسها في غرفة الجلوس بمنطقة الدوب شرقي فرنسا. وعندما أشارت عقارب الساعة إلى الثالثة، لم تصدر الساعة الضخمة في ركن المنزل النغمات التقليدية، إنما ترددت في الغرفة أصداء النشيد الوطني لهذه الدولة "المجهرية".


وهنا تساءلت، هل يتردد النشيد الوطني الفرنسي في قصر الرئيس إيمانويل ماكرون كل ساعة؟ أو هل يمتلك الرئيس الفرنسي وسادة طبعت عليها صورته، وهل يحمل وشاحا للطوارئ معه طوال الوقت؟ غير أن الرئيس الفرنسي لم يلتق نظيرته الزعيمة الثانية لجمهورية سوجيه، التي لا تتعدى مساحتها 128 كيلومترا مربعا حتى الآن، رغم أنه تولى الرئاسة منذ ثلاث سنوات تقريبا.


تقع دولة سوجيه في وادي سوجيه على الحدود بين فرسا وسويسرا، وهي دولة صغيرة لها علمها الخاص. ورغم أن فرنسا لم تعترف بها رسميا، إلا أن سكانها لم يتوانوا عن انتخاب رئيسة لجمهوريتهم الخاصة. 


ولعل ماكرون لم يسمع "بالمزحة" الشهيرة المستمرة منذ عام 1947، حين زار أحد المسؤولين منطقة سوجيه، الاسم الشائع محليا للمجتمعات التي تعيش في الوادي كثيف الأشجار الذي يقع بمحاذاة الحدود السويسرية، وقرر أن يعلن تأسيس جمهورية سوجيه.


وتحكي بيرتين بورشيه، أن أباها جورج كان يدير مطعما في بلدة مونتبوا، وكان يهوى المزاح. وفي أحد الأيام كان يطهو الطعام لبعض المسؤولين، وعندما وصل حاكم إقليم الدوب، لوي أوتافياني، سأله أبوها مازحا إن كان يحمل تصريحا لدخول أراضي سوجيه.


وعندما حكي له أبوها عن تاريخ سوجيه، لم يلبث أوتافياني أن قال له: "أرى أنها أقرب إلى الجمهورية، والجمهوريات يحكمها رؤساء، وسأعينك رئيسا لجمهورية سوجيه".



وادي سوجيه المعزول جغرافيا بنهر الدوب ينفرد بهوية خاصة وجمال طبيعي خلاب 


ومنذ ذلك اليوم، أصبح جورج رئيسا للمنطقة التي تضم 11 بلدية ويسكنها بضعة آلاف من المواطنين. غير أن وفاة جورج بورشيه في عام 1968، كان من الممكن أن تضع نهاية للمزحة، لولا أن تدخل قسيس دير مونتبوا وعمدة القرية، وأخبرا أمها، غابرييل، أن المواطنين بالجمهورية انتخبوها رئيسة.


قبل 1000 عام، كان هذا الركن القصي من فرنسا، والواقع على ارتفاع ألف متر عن سطح البحر، غير صالح للعيش، بسبب أشجاره الكثيفة. وكثيرا ما كان اجتيازه يتعذر بسبب كثرة هطول الثلوج. ولم يكن يسكن هذا الإقليم في القرون الوسطى سوى النساك الذين كانوا ينشدون العزلة، ومنهم الناسك بنوا، الذي أسس صومعة ليتعبد بها وتحولت إلى دير مونتبوا.


وفي عام 1150، أهديت المنطقة لأسقف مدينة بيزنسون المجاورة، وطفق الكهنة من منطقة فاليس في سويسرا وبعض العمال من منطقة سافوي المجاورة في فرنسا، يقطعون أشجار الصنوبر الضخمة لتوسيع الطرق في المنطقة لكي تصبح صالحة للسكن، وشرعوا ببناء الدير ثم أقيمت البلدات من حوله.


وتنفرد المنطقة بهويتها الخاصة، بفضل موقعها على الحدود بين سويسرا وفرنسا، وحدودها الجغرافية الطبيعية، إذ يفصلها نهر الدوب وسلسلة من التلال عن سويسرا. وفرضت قساوة طقسها على سكانها الاعتماد على الذات، وينحدر الكثير من سكانها من منطقة سافوا الجبلية شرقي فرنسا. 

وفي عام 1637 ارتكب السويديون مجزرة ساعدت في توطيد وحدة سكان المنطقة، ولا تزال ندوبها ماثلة على الدير، الذي شُوهت بعض نقوشه الرائعة أثناء الهجوم.


وكانت للمنطقة لهجتها الخاصة التي تمزج بين الفرنسية والسويسرية ولغة فرانكو بروفنسال (أربيتان)، التي اندرث منذ وقت طويل، لكن جوزيف بوبيلييه، أحد الكهنة المحليين، كتب نشيدا فكاهيا باللهجة المحلية في عام 1910، واتخذ نشيدا وطنيا للجمهورية. ويقول آخر البيت الأول: "الانتماء لسوجيه يجعلك تعتقد أنك أكثر من مجرد فرنسي". 



وجسدت غابرييل إصرار أجدادها، وكرست 33 عاما من حياتها لتحسين وضع سوجيه، ووضعها على خريطة السياحة العالمية، وإنقاذ الدير من الانهيار من خلال تنظيم معارض لجمع التبرعات لتغطية تكاليف ترميمه. وتوفيت عن عمر 99 عاما وهي تقوم بمهام منصبها. 


وأشرفت غابرييل على مشروعات كبرى، منها تصميم شعار الجمهورية، والذي يتضمن عصا كاهن وخوذة وشجرة صنوبر مغطاة بالثلوج ونهرا، وكذلك تصميم علم سوجيه في عام 1981، ثم الطابع البريدي للجمهورية سنة 1987، ولكي يدخل الزوار المنطقة كان عليهم الحصول على تصريح رئاسي. 


بعد وفاة غابرييل سنة 2005، وافقت ابنتها على مضض على تولي منصب الرئاسة خلفا لأمها بسبب كثرة مهام المنصب. لكن حكومة سوجيه المكونة من رئيس مجلس الإدارة ووزير الخارجية وموظفي جمارك وسفيرين، ألحوا عليها لقبول المنصب، وقالوا لها إنها انتخبت بالإجماع.


وتقول بيرتين بورشيه إنها لولا أنها كانت بمفردها، بعد وفاة زوجها ولأنها لم تنجب أطفالا، لما قبلت المنصب. ورغم كبر سنها إلا أن بيرتين بورشيه تتمتع بنشاط وحيوية. وتنوء أرفف مكتبتها بسجلات مواطنين الشرف، الذين يُختاروا سنويا في العيد القومي الذي تقيمه الجمهورية سنويا لتكريم كل من ساهم في النهوض بالدولة.


وتمتلئ دفاترها بقصاصات الصحف التي تبرز صورها بصبحة النبلاء الأوربيين في قصر الإليزيه أو في حفلات تدشين مشروعات محلية. ورغم أن الجمهورية لم تعترف بها فرنسا، أو غيرها من الدول، رسميا، إلا أن نيكولا ساركوزي، دعاها أكثر من مرة لقصر الإليزيه لحضور حفلات تكريم مواطنين من سوجيه.


لكن تولي منصب الرئاسة يتطلب تفرغا كاملا. وليس من المستغرب أن تكون الرئيسة وأعضاء الحكومة متقاعدين عن العمل.



تضم الجمهورية مكتبا للجمارك، يعمل به موظف جمارك، ويحصل الزوار على تصاريح لدخول المنطقة 


وأصبح الآن الدير أبرز المقاصد السياحية في الجمهورية، بفضل جهود غابرييل وابنتها في ترميمه، ويضم متحفا صغيرا خُصص لسرد تاريخ سوجيه، ورواقا، وقبوا، دُفن فيه الكهنة بزيهم الكهنوتي.


وفي إحدى الأمسيات الباردة كان الدير كعادته ممتلئا بالسياح الذين فوجؤوا بوجود رئيسة الجمهورية وسط الجموع. وعندما حضر مجموعة من أطفال المدارس، هرعت الرئيسة إلى سيارتها لإحضار الكلمة التي ستلقيها على الحضور. ثم أخرجت من حقيبتها وشاح الطوارئ.


وإذا لم يحالف الزائر الحظ لمقابلة الرئيسة، بإمكانه مشاهدة تمثالا لجورجيت في أحد معامل تدخين اللحوم ببلدية غيلي التي يسكنها 1.615 نسمة. ويحكي التمثال للزوار تاريخ المنطقة. ويتضمن المعمل أيضا مجسما لمكتب الضرائب وتمثالا لأحد ضابطي الجمارك بالجمهورية. 


ويستغل مدير المعمل الفرص التسويقية التي تنطوي عليها هذه الجمهورية الفريدة من نوعها، ويقول إن الزوار يتدفقون على المتجر ليشاهدوا النماذج المجسمة ويتذوقوا اللحوم المدخنة التي اشتهرت بها المنطقة. وعندما سألت مدير المطعم إن كان انتماؤه لفرنسا أم سوجيه، أجاب بأن يستفيد من انتمائه للاثنين.


لكن الجمهورية الآن بعد مرور 73 عاما على تأسيسها تواجه أزمة حقيقية. إذ أعربت بيرتين بورشيه لرئيس وزرائها مرات عديدة عن رغبتها في التقاعد منذ عامين، بعد أن أرهقتها المسؤوليات ولم تعد تقوى على مزاولة مهام الرئاسة. لكنها حتى الآن لم تجد أحدا يوافق على شغل المنصب خلفا لها.


ولأن جورجيت لم تنجب أبناء، فقد تخرج الرئاسة من عائلة بورشيه للمرة الأولى، ومن الصعب العثور على رئيس يحل محل بيرتين بورشيه التي تكرس كل وقتها وجهدها لمهامها، وتؤمن أن الرئاسة منصب شرفي، وليس جزءا من التراث الشعبي للمنطقة فحسب.


وقد تفقد هذا المنطقة الصغيرة تميزها كجمهورية مستقلة جاذبة للسياح، إن لم يقض الزائر يوما بصحبة الرئيسة.


ربما لم يتعد الأمر في البداية مزحة بين الأصدقاء، لكنها تحولت إلى مشروع جاد أثار حماسة بيرتين بورشيه والمسؤولين بالجمهورية، وأولوه كل اهتمامهم بغية حماية تاريخ المنطقة وتراثها. والآن أصبح مصير الجمهورية في مهب الريح، وربما آن الأوان لأن يتقدم أحد مواطنيها وينهض بمسؤوليات الرئاسة.


-المصدر الأصلي: بي بي سي 



شارك
اشترك في القائمة البريدية

اقرأ أيضا